د. عماد جاد يكتب: مشاهد من العصور الوسطى

د. عماد جاد يكتب: مشاهد من العصور الوسطى
د. عماد جاد يكتب: مشاهد من العصور الوسطى

حملت لنا وسائل الإعلام المصرية المختلفة مشاهد لقوات الأمن المصرية وهى تقوم منذ الساعة السادسة من صباح الأحد الماضى بإغلاق أحد شوارع قرية صغيرة فقيرة معدمة تسمى «عزبة الفرن»، تتبع مركز أبوقرقاص فى محافظة المنيا، الهدف من التجريدة الأمنية هو منع أقباط القرية من التوجه إلى أحد المنازل الذى اتخذوا منه مكاناً للصلاة إلى ربهم فى أحد أيام صيام السيدة العذراء مريم. المشهد هزلى بامتياز، العساكر الغلابة الذين استيقظوا من الساعة الثالثة فجراً تم حشدهم لإغلاق الشارع المؤدى إلى المنزل المستخدم فى الصلاة، وما إن بدأ أقباط القرية فى التوجه إلى المنزل للصلاة اعتباراً من الساعة السادسة صباحاً حتى فوجئوا بقوات الأمن تغلق الشارع وتمنعهم من الوصول إلى المنزل، الحجة التى ذُكرت أن المنزل غير مرخص ككنيسة ومن ثم لا يجوز الصلاة فيه. المشهد مؤلم للغاية ومستفز ولا يمكن أن يحدث فى دولة مدنية أو حديثة بها دستور يقول بأن حرية الاعتقاد مطلقة ويقر بحرية ممارسة الشعائر لأصحاب الديانات الإبراهيمية. اعتدنا مثل هذه المشاهد فى إسرائيل، حيث تقوم القوات هناك، وهى قوات الاحتلال، بمنع المواطنين الفلسطينيين المسلمين من الصلاة فى المسجد الأقصى، ولكن المشهد هناك تضمّن تعاطفاً من قبَل الفلسطينيين المسيحيين مع مواطنيهم المسلمين، فعندما قررت الحكومة الإسرائيلية منع الأذان تعاطفت الكنائس وقام بعضها برفع الأذن من أعلى مناراتها، وعندما ما وضعت الحكومة الإسرائيلية بوابات إلكترونية على مداخل الأقصى ثار المسيحيون تضامناً مع المسلمين، وكان تضامناً مبدئياً مع حق الإنسان فى ممارسة شعائر دينه، وله كل الحق والحرية فى هذه الممارسة.

ونجح التضامن الفلسطينى المسيحى الإسلامى فى إجبار حكومة الاحتلال الإسرائيلى على التراجع عن مخطط تقييد الصلاة وممارسة الشعائر فى المسجد الأقصى، بل تضامنا فى مصر مع جهود الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين فى الدفاع عن الحق فى ممارسة الشعائر الإسلامية فى المسجد الأقصى.

يحدث هذا بينما حكومتنا المجاهدة تصدر الأوامر لرجال الشرطة بمنع المصريين الأقباط من ممارسة شعائر دينهم على أرضهم وأرض أجدادهم، يقولون إن المكان غير مرخص ككنيسة، والسؤال هنا: ومن المسئول عن عدم الترخيص؟ ألا توجد عشرات القرى فى محافظة المنيا تحديداً محرومة من بناء الكنائس، تارة لأن الجماعات المتشددة ترفض ذلك، وتارة أخرى بسبب ألاعيب الأجهزة الأمنية والتنفيذية؟ لقد أصبح مشهد منع المواطنين المصريين الأقباط من ممارسة شعائر دينهم أمراً مستفزاً للغاية ويخيب بشدة كل الآمال التى كانت معقودة على انتهاء عصر وفكر وعقلية الخط الهمايونى، فما الذى يضير الدولة المصرية من صلاة الأقباط إلى ربهم وممارسة شعائرهم الدينية فى أى مكان؟ ما الخطر فى ذلك حتى ندفع بقوات أمن لإغلاق الطرق فى وجه الأقباط حتى لا يصلوا إلى ربهم؟ نعم هناك قانون لتنظيم بناء وإصلاح الكنائس، ولكنه قانون هو والعدم سواء، حتى إنه يقيد العملية تماماً، ويبقى القرار النهائى بيد الأمن وتلك هى المصيبة الكبرى.

 

 

مشاهد من العصور الوسطى (2)

على الرغم من أن الغالبية الساحقة من المصريين ينتمون إلى أصل عرقى واحد، وأن الدستور المصرى منذ دستور 1923 ينص صراحة على المساواة بين المواطنين أمام القانون وألا تمييز بينهم بسبب الأصل أو العرق أو اللغة أو الدين، فإن الواقع المصرى يقول بغير ذلك، بل إن ما يُمارَس اليوم من تمييز بين المصريين على أساس الدين والطائفة بات يجرح وجه مصر ويشوه صورتها فى العالم ويجعلها من الدول المصدّرة للدواعش فكراً وبشراً، فما نحصده اليوم من ثمار مُرّة تتمثل فى انتشار الفكر المتشدد وصولاً إلى اعتناق البعض للفكر الداعشى إنما هو نتاج ما زرعه النظام المصرى على يد السادات منذ بداية السبعينات، وما نشره من فكر متطرف ومتشدد وتشويه للآخر عبر وسائل إعلام الدولة ومنابر المساجد وكتب صفراء أعيد طباعتها بكثافة حتى وصلنا إلى مرحلة عشّش فيها هذا الفكر فى مؤسسات الدولة المصرية لا سيما الأجهزة التنفيذية والبيروقراطية، فالجميع يعلم تماماً أن هناك أجهزة سيادية حساسة يُمنع المصريون الأقباط من دخولها، وهو مؤشر جلى على تمييز الدولة المصرية بين مواطنيها على أساس الدين. كما أن ما يحدث من تضييق على بناء وإصلاح وترميم الكنائس أمر غير مقبول ويمثل إهانة لنا كمصريين، إننى شخصياً مع حرية الرأى والاعتقاد بشكل مطلق كما ينص دستورنا الحالى، ولكننى أيضاً مع حرية ممارسة الشعائر بشكل مطلق وليس لأتباع الديانات الإبراهيمية كما ينص دستورنا، فمن حق كل إنسان أن يعتنق ما يشاء ويصلى لربه أو إلهه بالطريقة التى يعتقد فيها. الفيصل هنا هو عدم الإزعاج وعدم تعطيل المنشآت أو تعطيل العمل أو الإساءة لغيره، فيما عدا ذلك فليس من حق الدولة إطلاقاً أن تتبنى ديناً أو طائفة وإلا أصبحت دولة دينية، فالدول الدينية مثل السعودية وإيران وإسرائيل هى التى تتبنى ديناً أو طائفة وتميزها على غيرها من الأديان والطوائف وتمنع مواطنيها من الإيمان بدين آخر أو طائفة أخرى.. باختصار، لا تقف على مسافة واحدة من كافة الأديان.

دستورنا يقول إن مصر دولة مدنية، ورئيسها يؤكد مراراً وتكراراً على أن مصر دولة مدنية نتطلع إلى أن تكون حديثة الدين فيها لله والوطن فيها لجميع المواطنين ولا تمييز بينهم، ولكن واقعنا يقول إن مؤسساتنا لا تزال مؤسسات دولة دينية أو بنيتها دينية، مؤسسات الدولة اتخذت لنفسها مهام دينية، والأكثر خطورة هو استمرار العقلية القديمة التى تنتمى للعصور الوسطى والتى تتمثل فى التضييق على المغاير ومنعه من ممارسة شعائره الدينية. الأقباط مصريون أصلاء، لا ولاء لهم خارج حدود بلدهم، يعشقون مصر أرض الأجداد، يتحملون جرائم الإرهاب من طعن وقتل وتفجير كنائس وقنص واغتيالات ويصلون لأجل من يرتكب هذه الجرائم أن يهديه الله، ويقفون بكل قوة مع الدولة كما يفعل قداسة البابا تواضروس الثانى، فلا يجوز بعد كل ذلك أن يتعرضوا لظلم المؤسسات التى تميز ضدهم بل وتُخرج حملات أمنية فجراً لمنع أقباط قرية من مجرد أداء الصلوات وممارسة الطقوس دون إزعاج لأحد، فهل صلاة الأقباط تزعج مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية؟ وكيف يرى الرئيس عبدالفتاح السيسى هذه المشاهد: قوات الأمن المصرية فى محافظة المنيا تقوم بحملة فى الفجر لإغلاق الشارع الذى يتخذ الأقباط من أحد منازله مكاناً للصلاة إلى حين الحصول على التراخيص اللازمة لبناء كنيسة فى القرية؟ نعم هناك قانون لبناء الكنائس ولا بد من احترامه، لكننا هنا لا نتحدث عن بناء كنيسة جديدة، نتحدث عن اتخاذ مكان للصلاة وممارسة الشعائر، فما الذى يضير مؤسسات الدولة من ذلك؟ أتمنى شخصياً أن نركز جميعاً فى بناء المدارس والمعاهد والجامعات والمؤسسات التعليمية والمستشفيات والمستوصفات الخيرية، قناعتى أن الله يسعد بمساعدة البسطاء والفقراء أكثر من بناء المبانى والزخارف، اتركوا الناس يمارسون عباداتهم وركزوا فى مهامكم الحقيقية، ابتعدوا عن فكر وعقلية العصور الوسطى.