خالد سليمان يكتب: أرجوكم.. اضحكوا من قلوبكم

خالد سليمان يكتب: أرجوكم.. اضحكوا من قلوبكم
خالد سليمان يكتب: أرجوكم.. اضحكوا من قلوبكم


أحيانا تكتئب الروح وتغتمّ بلا سبب ، وهذا ما يجعلنا نفرّق بين الهمّ والغمّ ، فالهمّ حزن وانكسار نعرف أسبابه ، بينما الغمّ حزن وانكسار نجهل أسبابه ، وتظل الروح معذّبة متردّدة ، كيف يزول هذا الهمّ والغمّ ، ولا شيء سوى ذكر الله فهو المضاد الحيوي الوحيد الفعّال لتلك الحال .
انطلقت بنا السيارة صباحا لمكان عملنا ، ويبدو أنها سيّارة مخالفة لتعليمات المرور ، فانحرف بها صاحبها لطريق داخليّ ؛ هربا من رقابة مرور المدينة ، وما شاء الله كانت عيناي تتجوّل في مشاهد ربّانية كريمة للخضرة بأناقتها وأناقة السماء الصافية الوادعة ، ووجوه الناس حكايات مصريّة صادقة للمعاناة والفرح والرضا والغضب ، وجوه هي أمواج من التناقضات ،
وبينما تتوالى الصور رائعة أنيقة ، توقّف السائق أمام زحام الناس ، وهم يتجمّعون أمام محلّ جزّار شعبي مدجّج بصور السكاكين المختلفة ، ويبدو أنّه يستعرض بطولته على البقرة الذبيحة ، وها هو ينادي من يساعده لرفع الذبيحة لأعلى ؛ ليعلّقها ؛ ليسهل تقطيعها وبيعها ،
ملامحه عجيبة : فسمرة الوجه ، وقسوة العينين ، وثيابه الملطخة بالدماء ، وشاربه الهارب من ملامحه ، كأنّه ملّ الإقامة على تلك الملامح ،
تجمّع الناس ؛ لمساعدته ، والتفّوا حول الذبيحة من جانب ، وهو يحاول جذب السلسلة التي ربط فيها الذبيحة لأعلى من ناحية المحلّ الداخلية ، وبدأ في الجذب بطريقة مضحكة مستخدما المصطلح الشعبي (هيلا هوب) ((هيلا لتشجيع العمال ، وهوب تعني عمل )) ، كان يكرّر ذلك
بطريقة مضحكة مرات ومرات ، ولكن الذبيحة ثقيلة ، وجميع الحاضرين حريصون على نظافة ملابسهم ،
وبدأ التراخي يظهر على الفريق المساعد ، فما كان من هذا الجزار إلا أنا غضب ، وثار قائلا : كيف ترتفع الذبيحة ، وأنا استعنت بـ ( م ق ا ط ي ع ) أي ضعافا ليسوا أقوياء ،
وبدأ في الصراخ ؛ لينشّط الجميع ؛ والكل يبذل ما في وسعه ، فما كان منه إلا أن غضب وثار صارخا شاتما : (ارفع يا بن ال ك ل ب أنت وهوه)
فما كان من الفريق المساعد إلا أنّ انسحب مرة واحدة ؛ فاختلّ الموقف ؛ فتعلّق صاحبنا لأعلى لحظات ، ثمّ نزل بهدوء وسط ضحكات المشاهدين المعتقلة داخل صدورهم ، لأنّه - أعتقد - لو لمح شفة مبتسمة لذبح من ابتسم .
بينما كنت في السيارة ضاحكا فاقدا للسيطرة على فمي ، منكسا رأسي ؛ حتى نمرّ من أمام هذا النمر الجريح بعد أن تبدد الجمع وولّى الدبر ، ومازلت ضاحكا مبتسما أنا ومن معي حتّى وصلنا إلى مدرستنا ، وقد تبدّدت الكآبة وفارقنا الهمّ والغمّ ، وامتلأت صدورنا تفاؤلا وانشراحا ،
وظلّ هذا الموقف عالقا في ذهني ؛ فما دخلت مكانا إلا وأنا أضحك ، ويسألني صاحب المكان عن السبب ؛ فأحكي له ما حدث ؛ فيتحوّل مثلي ضاحكا ، وظللت عاجزا عن كتابة الموقف ، حتى وأنا أكتبه أتذكّر تفاصيل تفاجئني ؛ فأضحك وأضحك ، مشهد تعجز السينما عن تمثيله وتصويره ، ويبدو أنّ الواقع أعجب ألف ألف مرة من الخيال ، مهما استعرض الخيال قدراته .