د. صلاح هاشم يكتب: ثورة الحرامية..!

د. صلاح هاشم يكتب: ثورة الحرامية..!
د. صلاح هاشم يكتب: ثورة الحرامية..!

بعد موجة الغلاء الأخيرة التي ارتفعت فيها الأسعارتقريباً بمعدل 40% حَدَّثنى أحد أصدقائى وهو أستاذ بكلية الطب .. وأخبرنى بأنه عاصر "إنتفاضة الخبز "التي وقعت في منتصف يناير عام 1977م؛ والتي أطلق عليها السادات "ثورة الحرامية"، حيث جاءت هذه الانتفاضةكردة فعلٍ  للقرارات "التقشفية" التي أعلنتها الحكومة بتعليمات من صندوق النقد الدولى آنذاك، وبعد وعود الرخاء "الزائفة " التي أعطاها السادات لجموع الشعب.خرج الثوار ينددون بالغلاء، ويعبرون عن واقعهم المأذوم بعدة شعارات أهمها "هو بيلبس أخر موضَه..  واحنا بنسكُن عَشَرَه فى أوضه" سيد مرعي يا سيد بيه.. كيلو اللحمة بقىبـ"جنيه"، وعلق صديقى قائلاً:اشتريت كيلو اللحمة لما كان بجنيه فى السبعينات، وامبارح اشتريته بـ160 جنيه.. وياترى لو طال بيا العمر،ممكناشتريه بـ 1000 جنيه..؟!

لقد لطمنى صديقى بصفعة قوية على الذاكرة .. أعادتنى بقوة إلى طفولتى المَنِسَّية، وألقَّت بِيبعيداً عن صِراعتنا اليومية مع الدولارواليورو. فلم أكن  أُدرِك قبل هذه اللحظة أننيقد "شِختُ" إلى هذا الحَد .. !

فلا يزال يلهو بداخلى ذلك "الطفل" البرئ، المولود على شاطئ النهر فى جزيرة مَنسِيَّةٍ، داخل "الصَعِيد" المُتَجَاهَل منذ مئات السنين، إبان الإنتصار على عَدِوِنا الإسرائيلى الغَاشِم .فأنا هو ذلك الطفل الذى وُلِد مع طَلَقَات الإنتصار والتحرر، وأناذاتهالتى شهدتالولادة الأولى لأى نظام إقتصادى،فقد انطلقت معظم الأنظمة الإقتصادية من فكرة "المقايضة".

قليلون فيقريتي هم الذين كانوا يمتلكون "العُملَّة المعدَنية" أما "العُملَّة الورقية" فكانت بمثابة "حُلماً" يداعب فقراء القرية. الذين فتح لهم "السادات" آفاق التحرر من أتون "الفِلس"  والمليم والتعرِيفَة، إلى عالم أرحَب وهو"الريال" الذي كان يساوى حينها عشرين قرشاً، واختفى بظهور "ربع الجنيه المخروم" ..! حين سُمِحَ لهم بالهجرة إلى بلاد النفط؛ فعادوا منها ببعض من العُملاتالورقية، وراديوترانزستور، وجلباب أبيض قصير بمنطال، ولِحِي مُطَوَلة..!

فخلال الأربعين سنة الماضية فقط – وربما أقل - شهدت مصر تطوراً مخيفاً وسريعاً لعُملاتِها، حيث زاد وتنوع عددها، وتراجعت قيمتها بين عملات الدول الأخرى.. وكأن الذين كانوا يعيشون قبل السبعينيات على هذه الأرض، لم يمارسوا قط، عمليات البيع والشراء..!

فكنا نقايض السلعة بالسلعة.. وكانت الأمهات يجهزن فتياتهن للزواج بـ"البيض والدجاج" وبعضٍ أكواز " الدُرَّة " الجافة .. كنا نشترى كُسوّة العيد ببلح النخيل وجَريدِه، وخزين القمح والدُرَّة والتِرمِس والسمسم .. كانت أُجرَة  المِزِينوالنجار والحانوتى "موسمية"، وكانت عبارة عن بعض من عوائد الحصيد، من أكواز القمح والدُرَة والفول السوداني..وكان المحصول الوحيد الذى لا يُقَايّض عليه هو "القطن" فقد كان كـ"الذهب " لا يزرعه ولا يملكه سوى عِليَّةُ القوم ..!

يبدوا أنني"شِختُ"كما شاخ حولي كل شيئ،حتى "المشاعر والأحاسيس". حيث تغيرت  أسماء العُملات.  فمنذ أربعين سنة أو أقل كان "الجنيه" الورقيفى ذاته حُلمَاً للبسطاء والعامة .. وكانت الـ "100" ثروة؛ يورثها الفقراء لأبنائهم .. وكان الذي يمتلك "مليون جنيه" مليونيرا، وليس "حافيًا" كما هو الحال اليوم .. !

كان " القرش " هو مصروفنا اليومي في الدراسة.. فَبِهِ نشترى أرغفة "الطابونة"وأقراص الطعمية الساخنة. بل كانت "البيضة" مصروفاً يومياً لمعظم تلاميذ المدارس بمراحلها المختلفة. وكانأغلب الطلاب يربون "فراخا" فى البيت؛ ليدخروا من بيضها مصروفاًيوميا لهم..أما الذين تمكنوا من العمل في الأجازة الصيفية، فكانوا يربون قطعا من إناث "الماعز" يكفى إنتاجها لسد المصاريف الدراسية، وشراء كُسوَّة العِيدَين ..!

لقد شاهدتفى طفولتى وحتى بداية الثمانينيات الصاغ "القرش" الأبيض والقرش الأصفر. كما شاهدت "التعريفة " أو "النِكلا " وكانت تساوى خمسة مليم .. وكان لكل منهما قيمة شرائية معقولة.. وعاصرتأيضا "الستين فَضَة" التي كانت تساوى "قرش + تعريفة" و "المِيَّة فَضَة" وكانت تساوى " قرشان + تعريفة " .. وعاصرت كيف كنا نقايض السمن البلدى باللحم..!

لم نكن نعرف الميزان سوى فى المواسم .. فكنا نَكِيل "السَمن" البلدي واللحم بـ"الرَطل " و"الوِقِية " وكنا نقيس الأرض بدون متر .. فكنا نستخدم فى القياس ما يسمى بـ"القَصَبَة" التي هى عبارة عن قطعة من جريد النخيل طولها ذراعين ونصف.وكنا نَكِيل الغِلال بـ"الكَيلَّة" و"الرُبع" الذي هو نصف الكيلة والذى يساوع عدد من الصاعات المحسوبة.. وكان معظمنا لا يعرف كم تساوى الكَيلَّة من الكيلوجرامات ..! كانت"عُملَتُنَا " من الطبيعة، وكانت سلعتنا من الطبيعة .. وكانت حياتنا بدائية بسيطة .. لكنها كانت سعيدة ..!

لقد عاصرت كيف كان المصريون يتهادون فى لحظات الشدة والمرض. فكنا فى أبسط حالات المرض نتزاور ببعض من حبات "الليمون" وفى أفضل حالاتناالمادية نتزوار بقراطيس الشاي والسكر، وفى أشد حالات المرض، كنا نحمل إلى المريض زجاجة الكوكاكولا،حتى ظن البعض أنها نذير شؤم على المريض؛فامتنعوا عَنها ..!

وبدأت العُملَّة المصرية رحلتها مجدداً مع برامج الإصلاح الإقتصادي الهيكلي، التى بدأت مع منتصف الثمانينيات، بتعليمات أيضاً من صندوق النقد الدولى،التى إنتهى معها نظام "المقايضة" .. ومن هنا بدأ "القرش"رحلة الكفاح مع السِلَع؛ حتى أعلن هزيمته  فى العام الأول من سنوات الإصلاح المزعوم ..! ودفناه فى ذاكرتنا، كما دفنا من قبله براءة الطفولة .. وسَلَّمَ القرش الراية إلى "الجنيه" الذي بدأ هو الأخر"يترنح" أمام أتفه السِلَع،ودخل في حرب ضَرُوس مع الدولار، فتم طباعة عملة جديدة لم نكن نعرفها من قبل، من فئة الـ"50 جنيه" ثم فئة "100 جنيه" وصولاً إلى فئة الـ"200 جنيه"..  فما كنا نشتريه في السبعينيات بـ"البيضة" الواحدة، ربما أصبحنا نشتريه اليوم بالـ"50" جنيها، وربما بجودة أقل ..!

فلا شك أن اقتصادنا قد "شاخ " بفعل سياسات اقتصادية متخبطة، وحسابات مغلوطة، وقرارت متتالية غير محسوبة، فرضتها علينا مؤسسات دولية متآمرة، وغباء مسئولين غير مسئولون، تسببوا فى إمراض "الجنيه" المصري حتى شاخ.. ويبدو أننا شِخنِا معه ..!

 

 

د. صلاح هاشم

Sopicce2@Yahoo.Com