الكابلات البحرية صراع تديره الاقطاب الدولية والأجهزة الاستخباراتية بقلم د.مريم المهدي

الكابلات البحرية صراع تديره الاقطاب الدولية والأجهزة الاستخباراتية بقلم د.مريم المهدي
الكابلات البحرية صراع تديره الاقطاب الدولية والأجهزة الاستخباراتية بقلم د.مريم المهدي


مرة أخرى تعود الأهمية الكبرى للبحار والمحيطات، تلك التي كانت عنواناً للهيمنة الأممية طوال قرون، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، فقد كانت القاعدة ، أن من يسيطر ويهيمن على البحار يمكنه أن يبسط نفوذه حول العالم.
  على أنه ومنذ أن بدأت مغامرات ارتياد الفضاء، ومع برامج العسكرة الفضائية، بدا وكأن هناك تراجعاً للأهمية النسبية للبحار والمحيطات . إلا أن متغيراً جديداً يختص بنقل المعلومات عبر خطوط تحت المياه تسمى "الكوابل"، يبدو أنه أعاد النظر إلى الأهمية الاستراتيجية لما يجري تحت المياه، وبشكل لا يقل أهمية عما يجري فوقها، فقد باتت هناك شرايين تمتد عبر القارات تحت المياه، تنتقل من خلالها المعلومات والبيانات، وهي سلعة القرن الـ21 من دون أدنى شك.
 ما قصة الكابلات البحرية؟.. ومن يمتلكها؟ ..وكيف يتم التواصل بين العالم من خلالها؟ ..وهل باتت قضية الكابلات البحرية واحدة من قصص صراعات الأقطاب الدولية، لا سيما أنه من خلالها يتم التجسس المتبادل على الدول المختلفة؟ تساؤلات عديدة ومثيرة !! نستدل عليها من خلال ما آلت إليه في الفترة الاخيرة.
  
  *امتلاك الكابلات البحرية :
   تتوزع ملكية الإنترنت في واقع الأمر ما بين الدول وكبريات شركات التكنولوجيا حول العالم، والتي تقوم على نقل المعلومات عبر شبكة الإنترنت، على سبيل المثال لا الحصر، تسيطر شركة "غوغل" بمفردها على نحو ستة كابلات بحرية دولية تجري في مياه عدد من القارات، وينتظر أن يزداد هذا العدد كلما ازداد عدد المشتركين والمستخدمين لمحرك بحث الشركة.
والثابت أنه قبل عام 2012 كانت شركات التكنولوجيا العملاقة الأربع "مايكروسوفت" و"ألفايت" و"ميتا" و"أمازون" تحتكر أقل من 10 في المئة من الألياف الضوئية المغمورة، أما الآن فقد ارتفعت النسبة إلى نحو 66 في المائة، ووفقاً لشركة "تيليجيوغرافي" المتخصصة في دراسات الاتصالات السلكية واللاسلكية، فمن المنتظر أن يسيطر الرباعي في السنوات الثلاث المقبلة على تمويل وامتلاك شبكة كابلات الإنترنت تحت البحر بين أغنى البلدان وأكثرها فقراً على شواطئ المحيطين الأطلسي والهادي.....ومع بداية 2024 بدا أن للشركات الأربع حصصاً في أكثر من 30 كابلاً بحرياً، يبلغ طول كل منها آلاف الكيلومترات، وتربط بين كل قارات العالم باستثناء القارة القطبية الجنوبية.المؤكد أن عملية مد كابل بحري واحد تقدر بمئات الملايين من الدولارات، ويتطلب تركيبه وصيانته بعمق أكثر من ستة كيلومترات أسطولاً من السفن.

السلعة الذهبية :  تنقل الكابلات السلعة الذهبية في القرن الـ21 أي المعلومات، وتتباين من حيث قدرتها على نقل المعلومات، فغالباً ما تكون الكابلات الحديثة أقدر على حمل بيانات أكثر من ذات عمر 15 سنة. أما السعة المتاحة للكابل فهي الكمية الكلية التي يستطيع نقلها، إذا وفر مالك الكابل جميع المعدات المطلوبة في نهاياته، وهو المقياس الأكثر شيوعاً في عالم الإعلام، أما تعبير السعة المضاءة يعني الكمية التي ينقلها الكابل فعلاً من البيانات، ونظراً إلى ثمن معدات النقل الباهظ لجأ مالكو الكابلات لطريقة التحديث التدرجي فيها بدلاً من شرائها.
* ما الأخطار المحدقة بالكابلات البحرية ؟  لكن وعلى جانب آخر تبقى هناك الأخطاء البشرية المقصودة، أي تلك الناشئة عن الصراعات بين القوى الدولية التي تتناحر تحت المياه، ضمن سياقات الحروب الجيوسياسية براً وبحراً وجواً، مما يأخذنا في الحديث من عند النقاط التقنية إلى زوايا الاشتباكات السياسية الخاصة بالكابلات البحرية، وبخاصة ما يجري من أعمال مثل التجسس بين الدول عبر اختراق تلك الكابلات، وهناك قصص عدة جرت بها المقادير بالفعل في هذا السياق.

صراع الجواسيس تحت الماء:
من الواضح أن واشنطن الماضية قدماً حسب مخطط المحافظين الجدد ووثيقة القرن الأميركي 1997 لا تكتفي بفكرة تشديد قبضتها على شبكة الكابلات البحرية حول العالم فحسب، بل بات من الواضح أنها تستهدف ضمان هيمنة شركاتها على السوق، لأن مشغلي الكابلات يمكنهم تحصيل رسوم على مرور البيانات بمجرد تثبيت أقدامهم، وذلك ببيع النطاق الترددي أو تأجير السعة لشركات التقنية ومقدمي خدمات الإنترنت وغيرهم بصفقات تمتد لعقود.
 * ولم يكن للصينيين أن يصمتوا أمام تمدد الهيمنة الأميركية في هذا السياق، ولهذا عمدوا إلى توفير شبكاتهم الخاصة من الكابلات البحرية، وتحولوا إلى راع للبنية التحتية الكثيفة للكابلات في البحار القريبة بما فيها الكابلات الأميركية واليابانية. وليس سراً أن أحد أفضل الطرق المفضلة من جانب الصينيين في منافساتهم الجيوسياسية مع الأميركيين،(التجسس) وسرقة المعلومات من قبل الداخل الأميركي،سواء كانت معلومات اقتصادية أو عسكرية. وعلى جانب آخر تتجلى العوامل الجيوسياسية بوضوح أكبر في منطقة جنوب غربي المحيط الهادئ، حيث ألغى البنك الدولي في 2021 مشروع كابل كان سيربط بين جزيرة غوام، التي تعد نقطة ارتكاز مهمة للغاية للعسكرية الأميركية، وميكرونيزيا وكيريباتي وناورو، إذ كانت شركة (HMN TECH) الصينية هي الأقرب إلى الفوز بالمشروع لكن واشنطن كانت السبب الرئيس في إفساده. لا يبدو صراع الجواسيس عبر خطوط الكابلات البحرية قائماً بين القوى ذات العلاقات المتردية، والقريبة من الصراع إلى التنافس  فحسب، بل يمتد حتى بين الأصدقاء أنفسهم، ومما يدعو للسخرية و العبث، هو قيام الولايات المتحدة قلب "الناتو" النابض بالتجسس على بقية الدول الأعضاء في الحلف من الجانب الأوروبي، مما تبدى بصورة واضحة خلال العامين الماضيين . ( علي الصعيد الاخر الروس وداعمو أوكرانيا ) : في أوائل مايو الماضي، أعلن رئيس استخبارات حلف شمال الأطلسي "الناتو" ديفيد كاتلر، أن هناك أخطاراً متزايدة من احتمال قيام روسيا بتخريب الكابلات البحرية لمعاقبة الدول الغربية على دعمها أوكرانيا. بعد ان هددت موسكو بقطع كابلات الاتصال تحت البحر عن ( الأعداء ) .

 * ( حرب الكابلات البحرية تهدد اعصاب العالم )  :
  تتوقف حياة البشر علي خدمات الانترنت والاتصالات وهكذا تحولت مع الوقت إلى أداة للمعارك . قطع العيش في العام الـ24 من الألفية الثالثة بات وثيق الصلة بقطع  الكابلات , بمعنى آخر، قطع كابلات الإنترنت يساوي خراب بيوت وقطع أرزاق وانهيار اقتصادات. وهذا يعني أن "حرب الكابلات" ليست وهماً أو خيالاً، بل واقعاً ملموسا،وربما قبل أيام ،حدث قطع في كابلات بحرية تحت مياه البحر الأحمر  ، وهو مما أدى إلى تعطل شبكات اتصالات عالمية، وتعثر أعمال واتصالات وتواصل ملايين الأعمال ومليارات البشر في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط. وعلى رغم الجهود السريعة  التي بذلتها الشركات المختلفة لتقليص الخسائر وإيجاد البدائل الموقتة، فإن العالم تضرر اقتصادياً، ناهيك بالقلق الذي تحول من مرحلة الشك في اعتبار الكابلات أداة حرب وضغط إلى اليقين، حتى لو ثبت أن القطع كان قضاءً وقدراً.  لكن الارتباك الذي ضرب نصف العالم تقريباً لم يحل دون استشعار جماعي، سواء في وسائل إعلام في الشرق والغرب، أو من قبل الأفراد في دول عدة تقف على طرفي حرب القطاع داعمة(لإسرائيل) أو متضامنة مع (حماس) و (الفلسطينيين) كما اصدر كل من "حزب الله" اللبناني والميليشيات المدعومة من إيران في العراق بياناتهم الخاصة عبر تطبيق "تيليغرام" التي تشير إلى أنهم يفكرون في قطع الكابلات، وهي خطوة من شأنها أن تمثل تطوراً جديداً في الصراع الإقليمي.
 ومما يؤكد أن الضربات الحوثية عالبا او يقينا تقف وراء ما حدث. لذا فإن صراع البحر الأحمر الحوثي بات يهدد العالم بقطع كابلات الانترنت :  وقد أعلنت شركة "تيلي جيوغرافي" الأميركية المتخصصة في بحوث أسواق الاتصالات في تقرير ,محذرة في يناير 2024 من احتمالات تحول البحر الأحمر، هذا الموقع الاستراتيجي للشحن العالمي، إلى منطقة صراع خطرة، لا سيما أنه يلعب دوراً بالغ الحيوية في شبكة الاتصالات العالمية.  
  * كيف يتحكم البحر الأحمر في أكثر من نصف معدل نقل البيانات الترددي اقليميا : متصلا بأوروبا عبر كابلات البحر الأحمر، وأن ما يزيد على 90 في المئة من إجمالي قدرة الاتصالات بين أوروبا وآسيا التي تمر عبر كابلات البحر الأحمر. وعلاوة على ما شكلته الهجمات الحوثية التي تستهدف السفن التجارية في البحر الأحمر من تهديد كبير للملاحة البحرية إلا أن الأمر قد يتطور، وفقاً للتقرير، "من هجمات فوق سطح البحر إلى أخرى في أعماقه حيث باتت الكابلات البحرية هدف الحوثي الجديد في الصراع". وجاءت التحذيرات على خلفية تقرير نشرته قناة تابعة( للحوثيين ) على تطبيق "تيليغرام" أرفقت معه صورة توضح خريطة شبكات كابلات الاتصالات البحرية في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب والخليج العربي ، في إيحاء لوضعه ضمن القوائم المحتمل استهدافها لتهديد العالم. وقال التقرير أن اليمن في موقع إستراتيجي، حيث تمر قربه خطوط الإنترنت التي تربط قارات بأكملها وليس الدول فقط". 
 وتظل الكابلات البحرية سيدة الموقف بما يقارب مليون و200 ألف كيلومتر من الكابلات الرابطة بين قارات العالم "الست" لتشبع الطلب المتزايد على خدمات الاتصالات للعمل والتعليم والترفيه والصحة والاتصال والتواصل. والمذهل أيضا أن معظم بيانات العالم عرضة للتوقف أو التعثر أو التعطل بسبب "خطاف" سفينة أو شباك صيد تحتك بقاع البحار أو بسمكة قرش تجذبها النبضات الكهرومغناطيسية الصادرة عن الكابل، وتلتهمه . وتكبد الكابلات البحرية خسائر كبيرة خلال السنوات تقدر بملايين الدولارات يعود سببها إلى العوامل الطبيعية  (العواصف والزلازل والبراكين والتغير المناخي)، الأضرار البشرية أو الأعطال التقنية التي تؤدي إلى قطع الاتصالات لساعات أو حتى لأيام وضعف أداء الكوابل أو تلفها تماماً.  .ليس هذا فقط، بل تقدم الكابلات البحرية نفسها باعتبارها صيداً ثميناً وهدفاً تدميرياً لجهة أو دولة أو جماعة ما. لذلك  أن افتقار امريكا والغرب إلى "طريق واضح" لإنهاء الصراع في غزة وتحقيق العدالة للفلسطينيين يعزز "جميع الجماعات المتطرفة في المنطقة".