محمود عابدين يكتب:وقفة مع النفس.. "لولا دا سيلفا" في مصر

محمود عابدين يكتب:وقفة مع النفس.. "لولا دا سيلفا" في مصر
محمود عابدين يكتب:وقفة مع النفس.. "لولا دا سيلفا" في مصر
 
منتصف الشهر الماضي ( فبراير ) استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي نظيره البرازيلي لولا دا سيلڤا بقصر الاتحادية، تزامنا مع مرور مائة عام على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين دولتيهما، وكذلك في ضوء عضوية مصر والبرازيل في مجموعة بريكس، إضافة إلى رئاسة البرازيل لمجموعة العشرين لهذا العام، ثم دعوة البرازيل لمصر للمشاركة - كضيف - في اجتماعات هذه المجموعة.
كما تم خلال الزيارة الاتفاق على الارتقاء بالعلاقة بين البلدين لمستوى الشراكة الاستراتيجية، وإنشاء لجنة مشتركة لتعزيز التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، على أن يتم تفعيل ذلك خلال زيارة الرئيس السيسي المرتقبة للبرازيل خلال العام الجاري .
وبمناسبة هذه الزيارة، ونظرا لأهمية وقيمة وقامة هذا الضيف الكبير، وما شهدته بلاده من نهضة اقتصادية عظيمة على يده فترة رئاسته السابقة، فإنها – للأسف الشديد - عادت مرة أخرى إلى التعثر لأعوام طويلة على يد منافسه الرئيس جايير بولسونارو، الذى تولى الرئاسة قبل فوز دا سيلفا عليه برئاسة البرازيل للمرة الثانية، وذلك بعد حملة مثيرة للانقسام شهدت تنافسًا بين خصمين لدودين على طرفي نقيض من الطيف السياسي، فاز فيها لولا بنسبة 50.9 في المئة من الأصوات آخر شهر أكتوبر عام 2022
كانت زيارة دا سيلفا لمصر – بحق – مهمة لسياسي لم يتمكن من الترشح في الانتخابات الرئاسية عام 2018 لوجوده داخل جدران السجن، ومنعه من الترشح لمنصب الرئاسة بسبب إدانته بتلقي رشوة من شركة بناء برازيلية، مقابل عقود مع شركة النفط بتروبراس، وقد أمضى الرجل 580 يومًا في السجن قبل إلغاء إدانته، ليعود مجددا إلى المعركة السياسية، حيث قال في مستهل خطابه بالفوز: "لقد حاولوا دفني حيا وها أنا ذا".
في هذا السياق، أريد أن ألقى الضوء على أزمتنا الاقتصادية المتنوعة التي يواجهها شعبنا الأبي حاليًا، ربما تكون هي الأصعب في تاريخنا الحديث، وحتى نكون منصفين لابد من الربط - في هذه الأزمة - بين سلوك عصابة المصالح، وبين وتجار الأزمات، هؤلاء الذين استغلوا ظروف الشعب الصعبة أسوأ استغلال، فتصاعدت بسبب جشعهم وقلة ضمائرهم أسعار جميع الخدمات والمنتجات المقدمة للمواطن المصري خلال وقت قصير إلى أرقام كبيرة وغير مبررة على الإطلاق، وكل ذلك مرجعه الفساد الذي استشرى في جسم المحروسة منذ عشرات السنين وللآن.
إن الفساد ظاهرة عالمية صحيح، ويعتبر من أكبر التحديات التي يواجهها العالم أجمع منذ عدة أجيال، وهو الأمر الذي يصاحبه تهديد مباشر لحياة البشر واستقرارهم، فللفساد آثار سلبية على كل جوانب المجتمع، حيث يتشابك بشكل وثيق مع جميع الصراعات والاضطرابات الإقليمية والعالمية، مما يهدد التنمية الاجتماعية والاقتصادية ويقوض أسس المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون.
لذا يجب إلقاء الضوء على الاتفاقية التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وطلبت حينها من أمينها العام أن يعين مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة - بوصفه أمانة مؤتمر الدول الأطراف في الاتفاقية - (القرار 58/4 )، ومنذاك، التزم 190 طرفا في هذه الاتفاقية بأحكامها، الأمر الذي صاحبه ظهور اعتراف عالمي بأهمية الحكم الرشيد والمساءلة والالتزام السياسي، وقد عينت الجمعية أيضا يوم 9 ديسمبر من كل عام، يومًا دوليًا لمكافحة الفساد، وذلك لإذكاء الوعي بالفساد ودور الاتفاقية في مكافحته ومنعه، ودخلت الاتفاقية حيز التنفيز أول ديسمبر 2005.
 توضيحا لما سبق، سأستعين بمقتطفات من مقال سابق لي عن تجارب بعض الدول التي استطاعت - رغم التحديات والظروف العصيبة التي واجهتها - أن تصنع مكانا لها بين الكِبار، وتخرج من وسط الركام أكثر قوة وتصميمًا على تغيير وضعها وبناء ذاتها مثل البرازيل، وهو ما نتمناه حاليا ومن قبل لمصرنا الحبيبة. 
نعم، إنها البرازيل أو "اليابان الجديدة"، كما يطلقون عليها، لقد آمنت تلك الدولة بـ " قوة الإرادة وإرادة القوة "، ومن ثم رفضت الهزيمة والانسياق خلف مشاكلها المزمنة، وخرجت من وسط ركام التخلف والجهل وضنك المعيشة، إلى المجد والرفاهية، على الرغم من أن سكانها كانوا يعيشون حياة بدائية تتسم بالفقر والجهل لتقدم لشعوب لعالم تجربة فريدة وملهمة.
فمن هم في مثل عمري يتذكرون جيدا عام 1979 الذي شهد فيه العالم أزمة نفط عاصفة تسببت في صدمة وذهولا  لجميع دول العالم دون استثناء، وكانت تلك الأزمة بمثابة سنوات الضياع للمارد البرازيلي، فكانت نتيجتها تضاعفت أسعار واردات النفط البرازيلية، مع ارتفاع معدلات الفائدة وانخفاض أسعار المواد في السوق العالمية، في الوقت الذي سجل فيه العجز بالميزان التجاري للبرازيل عام 1979 ثلاثة أضعاف ما سجله في العام 1978، فكانت كارثة حقيقية حلت بالتجربة البرازيلية الصاعدة فدخلت بذلك في مشاكل مستعصية، كانت في مقدمتها الديون الخارجية التى وصلت إلى أعلى نسبة لها على مستوى العالم.
وغرقت البرازيل في الديون حد الإفلاس، كما كانت شروط صندوق النقد الدولي مجحفة من أجل الحصول على قروض جديدة، مما جعلها ترضخ مبدئيا لتلك الشروط كي تقترض مبلغا ضخما وصلت قيمته إلى 30 مليار دولار من أجل القيام بالإصلاحات الاقتصادية المشروطة من الصندوق، ورغم استجابة البرازيل لشروط الصندوق، إلا أن أزمتها استمرت في التفاقم أكثر فأكثر، وأصبح 1% فقط من سكانها يحصلون على نصف الدخل القومي، وهبط ملايين المواطنين تحت خط الفقر، الأمر الذي دفع قادة البرازيل إلى الاقتراض من الصندوق مرة أخرى بواقع 5 مليارات دولار، معتقدين أن هذا هو الطريق للخروج من الأزمة.
عندئذ تدهورت الأمور بشكل مخيف، وأصبحت البرازيل الدولة الاكثر فسادًا وطردًا للمهاجرين، بل والأكبر في معدل الجريمة وتعاطي المخدرات والديون في العالم، حيث تضاعف الدين العام 9 مرات خلال 12 عاما، الأمر الذي جعل صندوق النقد الدولي يهدد بإعلان افلاس البرازيل لو لم تسدد فوائد قروضها، ورفض منحها أي قروض آخرى في نهاية 2002، وانهارت بالفعل عملتها حتى وصل سعر الدولار إلى 11 الف كروزيرو ( عملة البرازيل )، وفي هذه الحالة، أصبحت البرازيل على شفا عملية الاحتضار......!!
عام 2003 تم انتخاب لولا دا سيلفا رئيسًا للبرازيل، حيث عاني هذا الرجل فترات طويلة من الفقر والجوع وظلم الاعتقال ( كان يعمل ماسح احذية )، وهذا الأمر كان محل خوف وقلق من رجال الأعمال، ظنا منهم أن الرئيس الجديد سيسلبهم أموالهم، أما الفقراء فاعتقدوا أنه سيسرق ما تبقي معهم كي يعوض فترات حرمانه، لكنه لم يفعل ذلك، وإنما قال: "التقشف ليس أن أفقر الجميع، بل هو إن الدولة تستغني عن كثير من الرفاهيات لدعم الفقراء"، كما قال كلمته الشهيرة :"لم ينجح أبدا صندوق النقد إلا في تدمير البلدان".
ومن هنا اعتمد هذا الرئيس على قدرات مواطنيه وثروات بلده، ووضع بند في الموازنة العامة للدولة اسمه "الإعانات الاجتماعية المباشرة" وقيمته 0.5% من الناتج القومي للدولة، يصرف بصورة رواتب مالية مباشرة  للأسر الفقيرة، يعنى استبدل الدعم العيني بدعم نقدي، وهذا الدعم كان يدفع لـ 11 مليون أسرة فقيرة، تشمل 64 مليون برازيلي، فكانت قيمته حوالي 735 دولارًا ، أي حوالى 13 ألف جنيه حينئذ لكل أسرة شهريا"، وهنا نطرح السؤال التالي: من أين كل هذا والبرازيل كانت مُفلسة.....؟!
وهنا تأتي الإجابة، لأن لولا دا سيلفا رفع الضرائب على الكل، ما عدا المدعومين ببرنامج الإعانات، يعني رفع الضرائب على رجال الأعمال والفئات الغنية، وهنا نسأل سؤالا آخر: وهل وافق رجال الأعمال والأثرياء على ذلك ببساطة.... ؟!، التجربة أكدت أنهم كانوا سعداء جدًا، لأن الرئيس منحهم تسهيلات كبيرة في الاستثمار وآلية تشغيل وتسيير أعمالهم ومنح لهم الأراضي مجانا، بل وتسهيل التراخيص وأعطاهم القروض بفوائد صغيرة لمساعدتهم في فتح أسواق جديدة، فزاد دخل الفقراء وتضاعفت عملية  شراء منتجات رجال الأعمال، فتضاعفت بذلك حجم مبيعاتهم، لذا لم يشعر رجال الأعمال أنها جباية، بل كانوا يدفعون الضرائب عن طيب خاطر مقابل تسهيلات أصبحوا يكسبوا أكتر منها .
بعد 3 سنوات فقط عاد إلى البرازيل حوالي مليونا مهاجر برازيلي، وجاء معهم 1.5 مليون أجنبي للاستثمار والإقامة في البرازيل، وخلال 4 سنوات فقط، سددت البرازيل كل مديونيتها لصندوق النقد، بل إن الصندوق اقترض من البرازيل 14 مليار دولار أثناء الأزمة العالمية في 2008 بعد 5 سنين فقط من حكم لولا دا سيلفا، هو نفس الصندوق الذي كان يريد أن  يشهر إفلاس البرازيل في 2002 ورفض منحها أي قروض أخرى لتسدد فوائد القروض.
كل ذلك بفضل تركيز دا سيلفا على 4 أمور: ، فكانت النتيجة أن البرازيل وصلت إلى سادس أغنى دولة في العالم في آخر عام من حكم "سلفا"، وأصبحت تصنع الطائرات (أسطول طائرات الإمبريار برازيلية الصنع)، كما دشنت أول غواصة نووية (فقط 5 دول في العالم تصنع غواصات نووية امريكا - روسيا - الصين - بريطانيا - فرنسا)، أول غواصة كانت بالتعاون مع فرنسا، كما دشنت الغواصة الثانية في 2020، والثالثة فى بداية 2022 – بحسب الخبراء - بصناعة برازيلية خالصة.
بعد انتهاء ولايتي حكم لولا  في 2011، وبعد كل هذه الإنجازات الحقيقية على أرض الواقع،  طلب منه الشعب أن يستمر ويعدلوا الدستور، رفض بشدة وقال كلمته الشهيرة "البرازيل ستنجنب مليون لولا، ولكنها تملك دستورا واحدا"، وترك الحكم، إذا النهوض من التخلف ليس مستحيلا، إنها إرادة وإدارة ، ويحدث في سنوات معدودة فقط والطريقة معروفة ومحددة كما فعلت البرازيل: التعدين، الصناعة، والزراعة، والاهتمام بالفئات الفقيرة والتعليم، لا شيء، وهذا ما فعلته: ألمانيا، واليابان في ستينات القرن الماضي ،وكذلك دول دول شرق آسيا في الثمانينات، وهذا ما بدأته أيضا الهند في التسعينات.
تلخيصًا.. أتمنى أن تؤخذ تجربة البرازيل الناجحة في الحسبان من جميع الأطراف المعنية بالحوار الوطني الذي دعا إليه السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخرا، والذي يشمل القوى الوطنية المخلصة، كما نتمني ألا نرى في هذا الحوار وجوها سئمناها وكانت سببًا رئيسيًا في معاناة الأغلبية، وجوها تاجرت بـ: قوتنا الناعمة، ثقافتنا، تعليمنا، مسكننا، مأكلنا، مشربنا، صحتنا، آلامنا، أفكارنا و... تحت مسميات وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، ونتمنى أيضا أن يكون على رأس لجان هذا الحوار خبراء: وطنيون، مخلصون، متخصصون في كافة الملفات التي تحتاج إلى حلول عاجلة وآجلة على السواء:
-  اقتصاد، تعليم، ثقافة، صحة، قانون، بيئة، طاقة، زراعة، صناعة، ري و... وأعتقد أن جامعاتنا بها علماء وطنيون - ملهمون في كافة المجالات السابقة، إضافة إلى أهل الخبرة من الشخصيات العامة المشهود لها بالوطنية، هؤلاء فقط يستطيعون - من خلال علمهم وخبرتهم - أن يكونوا صمام الأمان الحقيقي للوطن من ناحية، ومن الناحية الأخرى يكونوا سندًا ودعمًا حقيقيًا لصانع القرار، والله من وراء القصد.