بعيدا عن الأحداث المتلاحقة التي يشهدها العالم حاليا، وبعيدا عن جهل الكثيرين بمصير البشرية إذا اشتعل فتيل الحرب العالمية الثالثة، سنركز من خلال هذه السطور البسيطة على محاولة الإنسان منذ بدء الخليقة معرفة مستقبله، حيث كان دائم النظر إلى السماء، وتخيل الكواكب والأبراج كحيوانات، وقد ربط الكهنة القدماء بين الكواكب والمقدسات وعبدوا بعضها ومنه بدأ علم الفلك.
وقد كان للملوك منجمون يقرؤون لهم الطالع ويقدمون لهم النصح في أمور مختلفة، يرى الباحثون أن البداية الفعلية للمستقبلية الحديثة بدأت في القرن الخامس عشر مع كتاب توماس مور (يوتوبيا) الذي تصور فيه مجتمعا مثاليا، ثم وضع فرنسيس بيكون كتاب (الاطلنتس الجديدة) متصورا مجتمعا فاضلا في جزيرة سماها «بن سالم» وفيها معهد (بيت سليمان) يقوم بقراءة المستقبل، وتصدر ضرورة أهمية دراسة المستقبل في العالم الإسلامي بسبب حاجتها إلى النهوض وقيادة البشرية وتحقيق الخيرية من جهة، ومن جهة أخرى لرد جهود القوى العالمية الساعية في سرقة مستقبلها أولا وصدّ الكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي وسعيه ليكون القوة الأولى إقليميا ثانيا وتزايد أهمية البترول ثالثا وضرورة الاستعداد لمرحلة ما بعد النفط رابعا وضرورة الاعتماد على الذات خامسا.
وهناك مدارس عدة في دراسة المستقبل (روسية، أميركية، فرنسية..) وهناك نماذج عالمية مثل نموذج حدود النمو ونموذج ساروم ونموذج الأمم المتحدة ونموذج المستقبلات الدولية ونموذج باريلوتشي.. وهي نماذج مالتوسية درست الوطن العربي للهيمنة عليه وكان إنشاؤها نتيجة للمطامع الغربية.
وها هو فرنسيس فوكوياما ( كاتب ومفكر أميركي الجنسية أصله ياباني؛ يعد من أهم مفكري المحافظين الجدد في أميركا )، كان مزهوّاً بنشوة النصر؛ بسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991م، وانحلال ولاياته وتفكّكها وانفصالها عن المركز الأمّ (موسكو)، كتب كتابه الشهير (نهاية التاريخ)؛ ظنّاً منه أنّ الصراع قد انتهى بسيادة الحضارة الغربية الليبرالية، وهيمنتها على مسار الحركة التاريخية المستقبلية، وأنّ الديمقراطية الليبرالية قد تشكل نقطة النهاية في التطوّر الأيديولوجي للإنسانيّة، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري، وبالتالي فهي تمثّل نهاية التاريخ.
وسرعان ما جاءه الرد من أستاذه صموئيل هينتنغتن بكتابه "صدام الحضارات"، الذي يرى فيه أن الصراع الآن بدأ وبقوّة، بَيْدَ أنّه صراعٌ له طابعه الجديد ومضمونه الخاصّ، صراع يعتمد على أدوات الثقافة والقيم والمبادئ والمعتقدات والأفكار الكونية والأخلاق والتقاليد والعادات؛ لأنه صراع حضاري بآلياته الحضارية ووسائله الثقافية، بعد أن كان صراعاً يتَّخذ أشكالاً مختلفة وطبائع شتّى، قومية وإقليمية وإثنيّة وثروات نفطية ومعدنية.
"هينتنغتن" يرى أن هناك ثماني حضارات في العالم في مقابل الحضارة الغربية الليبرالية، وأنّ هناك حضارتين أكثر تحدّياً وفاعلية، وهما: (الحضارة الإسلامية)؛ و(الحضارة الصينية الكونفوشوسية). ويحاول أن يتلمس عناصر القوة والضعف في هاتين الحضارتين، ويخشى من أمرين:
- الأوّل: اتحاد عناصر الحضارة الإسلامية المتكوّنة من الحضارات الثلاث: الفارسية والتركية والعربية، وإنّ أيّ تنازع بين هذه المكوّنات يضعف الحضارة الكبرى الأمّ (الإسلامية).
- الثاني: تقارب الحضارتين الإسلامية والصينية؛ للوقوف أمام الحضارة الغربية، ما يؤدي إلى قوّة جبهتهما في ميادين التحدّي والصراع. ولذا يقول: "مزاعم الغرب في العالمية تضعهُ بشكلٍ متزايد في صراعٍ مع الحضارات الأخرى، وأخطرها مع الإسلام والصين".
كما كأن "هينتنغتن" يريد أن يوحي إلى أمريكا والغرب بضرورة السعي الحثيث لمنع هذين الأمرين، بإثارة الخلافات القومية والإثنيّة العنصرية بين مكوّنات الحضارة الإسلامية، وبإبعاد الحضارة الصينية عنها، بالتأكيد على عناصر الخلاف وعوامل الافتراق. وهذا ما نقرأه وبوضوحٍ ما بين الأسطر في كتاب (صدام الحضارات)، ولا سيّما إذا عرفنا أن المؤلِّف ليس باحثاً وكاتباً عادياً، بل هو مسؤولٌ كبير في الحكومة الأمريكية، وأحد أهم المفكِّرين الذين يرسمون إستراتيجيا العلاقات الخارجية.
وهنا نطرح السؤال التالي: إلى أي مدى سيكون المستقبل غريباً؟ هل سيكون ذلك بقدر قليل فقط؟ أم سيكون غريباً بصورة جذرية لا يمكن تصورها؟ وهل هذا المستقبل سيكون على بُعد 1000 عام من الآن أم مجرد 100؟
يقول الخبير الاقتصادي الأميركي، تايلر كوين، أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة جورج ميسون، في تقرير نشرته وكالة «بلومبرغ» للأنباء، فكرة أن المستقبل سيكون أغرب مما نعتقد، وأنه سيأتي قريباً، هو احتمال طرحه هولدن كارنوفسكي، الرئيس التنفيذي المشارك لمنظمة «أوبن فيلانتروبي» للأبحاث، مضيفاً أنها فكرة جذابة ومثيرة للاهتمام.
وأوضح "كوين" أن أحد العوامل المربكة سيكون الأشكال المختلفة للهندسة الوراثية، مشيراً إلى أنه مع تقدم علم الجينوم، «سنكون قادرين على تغيير المسار المستقبلي للبشرية... وتعد أبسط طريقة لذلك، هي اختيار نوع الجنين الذي يمكن للوالدين من خلاله اختيار إنجاب ذكر أم أنثى، أو إنجاب طفل له بعض الخصائص الوراثية دون غيرها... وسوف تصبح قدرتنا على القيام بذلك محددة بصورة متزايدة»، كما أنه من المحتمل أن تكون الصور الأكثر مباشرة للتغييرات الوراثية، ممكنة. ويقول كوين إنه ربما لن يرغب معظم الآباء في القيام بذلك، بغض النظر عن حماية أطفالهم من الإصابة بعيوب خلقية محتملة.
ولكن من الواضح أن بعض الآباء سيقومون بذلك، وبالتالي سيتم تقسيم البشرية إلى مجموعات ذات تواريخ وراثية مختلفة. ويشار إلى أن ذلك لم يحدث من قبل في تاريخ البشرية الحديث، وفق ما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية، وهناك احتمالاً حقيقياً آخر، وهو أن الأبحاث المتعلقة بطول العمر، ستكون مثمرة. ويبدو حالياً أنه من الممكن بصورة متزايدة، تعديل «الساعات البيولوجية» المختلفة لإطالة العمر والإبطاء من معدل الشيخوخة. أما مسألة ارتفاع متوسط العمر المتوقع، فهي ليست بالأمر الجديد، إلا أن ذلك سوف يمثل أيضاً تغييراً أساسياً.
فمن الممكن أن يكون هناك الكثير من الأشخاص الذين سيعيشون أكثر من 100 عام، دون أن يعانوا من مشكلات صحية كبيرة، وعلى افتراض أن هذه التطورات لا تصل إلى جميع الناس على الفور، فإن العالم سينقسم. وسيقوم البعض بمتابعة هدف «سرعة الهروب»، في محاولة للعيش لفترة طويلة بما يكفي لاكتشاف العلاجات الجديدة لموتهم الوشيك، بحسب "كوين" الذي يؤكد:
- على طول الطريق، من الممكن أن تمنحنا الهندسة العصبية القدرة على تحريك وتغيير الأشياء المادية باستخدام عقولنا فقط. وهو ما يعد ممكناً بالفعل مع القرود، رغم أن ذلك سيكون بصورة محدودة، ومن المحتمل أن يكون لدينا دليل قاطع على وجود حياة ذكية على كواكب أخرى، حيث إن قدرتنا على البحث عن إشارات كيميائية وكهرومغناطيسية خارج كوكب الأرض تتزايد على نحو مطرد، ولنتخيل المستقبل في حال كنا نعلم أننا لسنا وحدنا في الكون، حتى لو ظلت الحياة الفضائية بعيدة، حيث يتوقع بعض العلماء في وكالة (ناسا) العثور على إشارات على وجود كائنات فضائية بحلول عام 2025....!!
ويتنبأ "كوين" إنه في مرحلة ما سيكون لدينا القدرة على إنشاء مسابر فضائية ذاتية الاستبدال، سوف نقوم بإرسالها إلى الفضاء ونحاول زرع الحياة في أنحاء المجرة. وبدلاً من ذلك، قد نخلق أشكالاً إضافية للحياة هنا على كوكب الأرض من خلال الذكاء الصناعي العام، مع ملاحظة أنه من الصعب التنبؤ بالعواقب الثانوية لمثل هذه التطورات، ولكن من المرجح أنها ستغير الكثير من جوانب الحياة البشرية المختلفة، وفي المقام الأول، من وظائف البشر.
ويختتم "كوين": من الممكن أن يحدث أيضاً خلق أشكال جديدة وأصلية للحياة البيولوجية، مما قد يؤدي إلى اضطراب الكثير من أنظمتنا البيئية بصورة جذرية، وعلى نحو أكثر تخميناً، هناك احتمال ضئيل أن تقوم المخلوقات الفضائية بزيارة الأرض وأن تكشف عن نفسها، وبالنظر إلى تقرير الحكومة الأميركية الأخير بشأن الظواهر الجوية غير المعروفة، "فأنا أعطي لذلك فرصة حدوثها بنسبة 1 % على الأقل، فلنتخيل فقط لو اجتمعت كل تلك التطورات أو معظمها على مدار عدة عقود، إن توقع ذلك لم يعد من الخيال العلمي المثير للسخرية.....!!..
وللحديث بقية.

