لازلت اتذكره جيدا، أتذكر وجهه الطافر بوسامته، غرة شعره تتراقص هفهافة ،قسمات وجهه الأبيض تغلفها ابتسامته الحلوة ،صوته واضح النبرات ،كان نغمه العذب كفيل لاجتذاب المارة ، لكن ونسهم سريعا ما يتلاشى وشجاره المستفز مع خاله " مسعود" ، حين يذكر ، معايرا ، كيف آواه وإخوته بعد رحيل والده ، مرت الأيام سراعا ، وتضاءلت كثير من الصور، حتى صوت غناءه المجلجل، وتمايله على وقع المزمار بالأفراح التي لم تخل من حضوره المبهج، فلا تنفضي ليلاه إلا ويتحف حضوره بوصلة تطريب ، يندفع على إثرها الصياح والتهليل ،الآن لم يعد لكل هذا وجود ،جرفت الأيام إرثها وطمرته تحت الركام ، غيبته في دهاليز الذكريات ، ليحل محله الشيخ " سيد " ، يخب في وقار سَمج .
ومع غبش الليل يصدح صوته بمصلى القرية بالقرآن نديا ، ومن بعده في " مندرته " وقتما يلتف الرفاق من حوله، يغرقونه بنظرات الإعجاب وفي نفس واحد :" الله..الله" ، هكذا مشت الأيام ، وآن لها أن تمشي ، إلى أن صحت القرية و حاله قد انتفش، جاءته الدنيا كغيره ، اطلت النعمة عليه بوجه بشوش ،ليتوقف معها ندب والدته وجعيرها ،تشتكي حظها التعيس، وخيبتها في ابنها العاطل ، الآن حُقّ لخاله أن يشرع رأسه ، يهتز متفاخرا بابن اخته حافظ كتاب الله ، الذي طار ذكره في الزمام ، لا ينفك يُذكِّر باستقامة حاله ، خصص له " سيد " نفحة يصيبه بها كل مساء، تطور الأمر ليصبح وكيلا عنه ، تولى مهام الاتفاق والتحصيل من الزبائن.
كانت " عزيزة " الأقدر على مشاغبة فؤاده ، وبث الوجد فيه ، مذ كانت تجلس أمام عتبة دارهم ، نجحت أحيرا في اصطياد الشيخ الوله فتزوج بها، انسلخ عن ماضيه ، لكن أذنه ظلت ملتصقه بجسد الراديو القديم ،وفي ونس يتعالى صياحه على فترات...الله عليكي يا ست..

