د. صلاح هاشم يكتب: بائعِةُ الدُوُد.. !

د. صلاح هاشم يكتب: بائعِةُ الدُوُد.. !
د. صلاح هاشم يكتب: بائعِةُ الدُوُد.. !

" ضَي العِين " لم تكن كغيرها من سيدات القرية، اللاتى تربين على شاطئ النهر .. كان مَلبسُها مُختلفاً، إذ أنهاكانت لا ترتدى " الشًجة " التى تَلِفُ جَسد المرأة فى الصعيد؛ فلا يظهر منها سوى " الوجه "و كنا لا نعرف من أي البلاد أتت،وكانت لهجتها غريبة بيد أنها كانت مفهومة .. كنا لا نمل النظر إلى عينيها السوداوين .. وأحياناً كنا نخاف الظلمة التى تسكنهما.. لم نسأل يوما عن إسمها، وكنا نناديها " بالدَوَادَةِ " أو " بائعة الدود" حيث كانت تقرر حجم الأجر بكمية الدود الذى تستخرجه من الرأس .. ! وكانت تسير فى شوارع القرية،تحمل فوق رأسها " سَلَةً " صُنعَت من زعف النخيل المُجَفف، وتنادى " أطَلَّع دُوُد زِيِن .. أطَلَّع دُوُد " ..!

 

ورغم أُميتها الشديدة، لكنها كانت تعرف كيف تُسَوِّق حِرفتها، وتعرف جيداً الأبواب التى تُفتًحُ لها، فتطرقها، والأبواب الموصودة، فتتجنبها .. كانت كذلك تبدى فهمها لأدمغة البشر، لديها مهارة فائقة فى مخاطبة أدمغة الفقراء، وإقناعهم بأن رؤسهم يسكنها الدُوُد .. وأن صداع الراس ناجم عن معارك الديدان المحتدمة فيها .. وحكة العين وهرشة الأذن، كلها أعراض لارتفاع أرصدة الدود فى أجساد الفقراء .. كانت تُجلِسَ الرأسَ بين كفيها، مُحَضَرة " طبقاً " من الماء به حفنة من الملح الأبيض – لإقناع البُسَطاء بأنه " دُوُد " حقيقى، وليس من أعمال الشعوذة .. وبعد " تمتمات" قليلة" ودعكة فى الأذنين والعينين والأنف؛ تنساب طوابير الدُوُد .. !

والغريب أنها كانت تقول دائما أن " أدمغة الأغنياء " نظيفة، لا يسكنها الدُود، أما إذا ماتوا فلن ترحمهمديدان الفقراء .. التى أكلت أدمغة الفقراء أحياءاً، وحين ماتوا، راحت تنتقم لهم من جثث الأغنياء ..! وكانت تقول دائماً أن دُوُد الأغنياء فى "عفن البطون ".. ودود الفقراء فى " عفن العقول " ..!

ربما كانت تتحامل " بائعةُ الدُوُد " على الفقراء، وتتهمهم دائما بأن رؤسهم عفنة، وأنها بيئة خصبة لتربية الدود.. وأن عقولهم قد صدأت .. وربما باتت عقولاً مجهده .. انهكها التفكير فى لقمة العيش، لكن تفكيرهم دائما كان محدوداً، مساراته أيضاً محدوده .. لقد تصورت " بائعة الدود أن الدود الذى يقتات على جثث الموتى ، لا يأتى من فراغ .. إنما هو فى الأصل موجود فى أدمغة الفقراء، وبطون الأغنياء ..!

وأن ما أكله الأغنياء من " حقوق الفقراء " تحول إلى " عَفَن " فى بطونهم، وما يتمتعون به من بطون منتفخة و " كروش عالية " ليست  بالضرورة " عافية " كما يزعمون. إنما هى كميات من " الدُوُد الشرس" الذى ينتظر لحظة الموت؛ لينقض على تلك الجثث البالية ..!

يبدو أن " ضَي العِين " أو بائعة الدود كانت أيضا فقيرة .. لكنها كان تملك رأساً يحاكى رؤوس الأغنياء، إذ أنها كانتتبحث عن رزقها خارج صناديق تفكير الفقراء .. لم تستهدف من حرفتها " جيوب الأغنياء " الذين يفكرون دائما بـ" مبدأ المكسب والخسارة "إذ أنها لن تقنعهم بتمتماتها الغامضة، ولا حتى الدُوُد الذى يتراقص فى أطباق الملح .. فأموال الأغنياء رغم كثرتها " غالية " و أموال الفقراء رُغم نُدرتها " رخيصة "..!

 

كانت ترفض أن تتعامل مع رؤوس الأغنياء، تقول أنها " صَلبةٌ " كالحجر .. والديدان لا تسكن الأحجار.. لم يكن أجرها مالاً تقتضيه .. بل كانت تتقاضى الخبز اليابس ، وأكواز الدرة.. وحفنات القمح .. فلا تعود إلى بيتها بمبلغ من المال، وإنما بـ" سلة " تفيض بشتى أنواع المحاصيل والفواكه.. كانت " جريئة " رغم اتهامها بأنها " ساحرة " وأن صديقة للجن والعفاريت .. ماتت " بائعة الدود " ولا زالت تسكن أفعيلها فى.. خاطرى .. ماتت وماتت معها أمنية  دفينة ، فى أن أرى " الدُوُد " الذى يسكنها ..!

   للتواصل مع الكاتب     

 د. صلاح هاشم

Sopicce2@Yahoo.Com