د. صلاح هاشم يكتب: كاتم أسرار الموتى

د. صلاح هاشم يكتب: كاتم أسرار الموتى
د. صلاح هاشم يكتب: كاتم أسرار الموتى

رغم كثرة الفلسفات وتنوعها في تفسير السلوك الإنساني.. يبقى الموت هو الحقيقية الراسخة التي لا يمكن إنكارها أو الاختلاف عليها.. وتبقى حياة الإنسانرهينةبين بوابتين هما بوابةالرحموبوابةالقبر”.. وبينهما أحداث كثيرة، قد يطول أمدها وقد يقصر.. لكنها في النهاية مجردأكذوبةتقع بينحقيقتينهما حقيقةالولادةوحقيقةالموت”!

لقد أدركعِبدِ لَّهحقيقةالموتدون غيره من شباب القرية، وأراد أن يتعرف عليها عن قرب؛ فقرر أن يعملخادمًاللموتىوكاتمًالأسرارهم! ورغم أن مهنته كانتمنبوذةمن أهالي القرية، إلا أنه كان دائم الدفاع عنها، والاعتزاز بها. وكان إذا سُئِل عن مهنته يقول: “أنا سيد هذه القرية.. وخادم تلك المِقبَرة”! وإذا سُئل عن سبب انتمائه لهذه المهنة يقول: الموتى لا يعايرونخُدَامَهمولا ينكرون محاسنهم.. وهم على يقين بأنهم لن يعودوا للحياة ثانية، وربما إن عُرِضَت عليهم العودة رفضوا! أما أحياء القرية فلا يحبون الموت، أملهم في الدنيا كبير.. لا ينقطع ما داموا أحياء.. وحين كُنا نسأله هل ترغب في الموت ياعِبدِ لَّهيبتسم، ثم يطأطئ رأسه وينظر إلينا في شجن ثم يقولبالطبع لا”!

لا أتذكر يومًا أنني قد رأيته ضاحكًا، وجهه دائمًا شجى.. كنت لا ألتقيه إلا في لحظاتالدَفن”.. لم يشارك يومًا في تشييعجثماندائمًا كان يسبقالموتىإلى المقبرة.. وإذا سُئِل عن هذا يقول: “سبقتهم لأُمَهِدَ لهم الطريق إلى الآخرة”!

وحين جاء لأخذالعَلِيقَةَيوم الحصاد، وجدته يطالب والدى بـعليقتهوكأنه صاحب حق، فسألته من أنت أيهااللاحَادأيدافن الموتىحسبما كان يدعى في القرية -فأجابني- وقد تحشرجتالعباراتفي حَلقِه -بصوت لم أسمعه من قبل: “أنا الذي يُولَدُ كل يوم.. ويموت في كل ساعة.. ويشعر أنه مولود من ألف عام.. اعترف بأنني إنسان قديم جدًا.. وأن حداثتى شيئٌ عَارِض.. أعيش اليوم بينكمقديمفي بيئة حديثة.. وحين وُلِدتُ كنتحديثًافي بيئة قديمة.. صراعي مع الكون دائمًا محتدم.. سبقته حين كُنت طفلًا، والآن يبدو أنه قد سبقنى!

رغم أننى أموت في كل لحظة، إلا أنهم يتهمونني دائمًا بأننيحيٌ”! يبدو أننى الميت الوحيد في هذا الكون، وربما أكون أنا الميت الحى.. أو الحى الميت.. أعتقد أن الفارق بينهما بسيط؛ لذا لم أستشعره.. لكننى أعتقد أيضًا بأننى أنا الميت الذي لم يسرق الموت منه سوىالروححقًا إننى قديم جدًا!

واستطرد قائلًا: لا شيء يربطنى بـحداثتكمسوىرائحة النهرالتي حين تناسيتمنشوتهاتراجعت إلى الجنوب حيث يُبنى السَد، فاختفى من فمى طعم الحياة شيئًا فشيئًا، وحَلًت رائحة الموت! الفارق بيننا كبير.. بالضبط كالفارق بين الموت والحياة.. فأنا من جيلصَلَّىللنهر وكُوفئحين حافظ عليه.. وأنتم من جيل صفق لـالماتش”!

غريب أنت ياعِبدِ لَّه”.. ألِهذا كله يهابَك الناس؟! قالعِبدِ لَّهليس لهذا فقط.. الناس لا يخافون من الموت بقدر خوفهم على الحياة.. أنا أجسد لديهمشبح الموتالذي يحرمهم من لذة الحياة.. أنا الوحيد الذي إن غِبتُ لا يشعر أحد بغيابى.. وإذا مِتُ لا يبكون عَلَي.. لا يذكرني الناس إلا في حالات الحزن.. لم أُدعَ يومًا لحضورفَرَح”.. وجودى قد يفسد فرحتهم، لا لشيء سوى لأن حضورى يذكرهم بالموت!

أنا الوحيد الذي حين زوجوه؛ شعروا بأنهم يزفونابنتهمإلى الموت.. رغم أنني الوحيد الذيحين يموتون- له شرعية النظر إلى عورتهم.. أنا حامل المسك وساكب العطر، وأول من يقرأ لهم الفاتحة، أنا آخر من يأخذهم في حضنه من البشر.. أنا الشخص الذي لا يحبه الناس، وبالرغم من ذلك إذا تحدث صدقوه.. وإذا توعدهم أهابوه.. فالناس لا تُحِبُ الصادقَ دائمًا.. الناس تحب من يخالطصِدقَهبعضٌ من المراوغة!

يتعاملون معي وكأنني كائن لا يعرفه الموت.. وأنهم إلي حتمًا قادمون.. وأن أسرارهم سوف تكون معيإن شئت فضحت.. وإن شئت سترت، هم لا يخافون منى بقدر خوفهم من أفاعيلهم التي خبأوها عبر السنين.. وقد أنبأتهمالكتببأنه فور نزولالميتإلى المقبرة تحل إليهبشائرالآخرة.. وأنا أول من يراها!

لم يكن لـعِبدِ لَّهصاحب ولا صديق في القرية.. عاش حياته في عزلة قاتلة.. كان رغم فهمه لطبيعة الموتبخيلًاوأشد حرصًا من أهل القرية على الحياة.. لم يرزق من الدنيا سوى بنت واحدة.. وحين نصحناه بأن يتزوج الثانية لتنجب لهالولدقال قريتنا لا تحتاج إلى رجال.. وإذا جاء الرجال؛ فلن يترك أشباه الرجال لهم مكان!

وكان إذا مرضعبدلَّهلا يذهب أبدًا إلى مشفى القرية.. دائمًا يتحرى الدقة والأمانة في الطبيب.. وكان يقول مشافكم تمرضنا.. حتى الكتب التي تكتبونها تجهلنا.. وحين كنا نصادفه في إحدى العيادات الكبرى يقول ذهابي إلى الطبيب ليس خوفًا من الموت أو رغبة في الحياة.. وإنما أُريد إذا قُدِرت لى الحياة؛ أن أعيشها دون وجع!

كانعِبدِ لَّهيشعر بالموتى أكثر من الأحياء، كريم جدًا في الاهتمام بأهل القبور.. فكان لا يروق له النوم سوى بجوار المقبرة.. وكأن الفارق الوحيد بين حياة الموتى والأحياء بالنسبة له هو سور ضعيف منالحجر”.. لم يتصور أهل القرية يومًا بأنه سوف يأتي اليوم الذي يودعون فيهعِبدِ لَّهإلى القبر.. كانعِبدِ لَّهعلى يقين بأن القرية سوف تتزين لموته.. لذا فقد كتب على واجهة القبرمات عِبدِلَّهلكن الموت لن يموت!