د. هالة مصطفى تكتب: السعودية تواجه إيران

د. هالة مصطفى تكتب: السعودية تواجه إيران
د. هالة مصطفى تكتب: السعودية تواجه إيران

على مدى الأيام الماضية فرض حدثان مهمان نفسيهما على ساحتى النقاش الدولية والإقليمية وليسا بعيدين عن بعضهما البعض، الأول يتعلق بالاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء اللبنانى سعد الحريري، التى أعلنها من الرياض، والآخر يختص بالإجراءات غير المسبوقة التى اتخذتها المملكة بعد توقيف أعداد هائلة من الأمراء والمسئولين الحاليين والسابقين وكبار رجال الأعمال، على خلفية اتهامهم بالفساد ضمن خطة شاملة لترتيب البيت الداخلي، أو بالأحرى إعادة تشكيل الدولة التقليدية فى صورتها الوهابية القديمة على أسس حديثة، بدأت بوادرها منذ إعلان ولى العهد الأمير محمد بن سلمان مبادرته عن «الإسلام الوسطى المعتدل» لتقديم «نموذج» مغاير لما ساد من قبل، وإقدامه فعليا على تغيير بعض الأوجه المرتبطة بالصيغة القديمة، أى فى الحالتين السعودية هى محور الأحداث ومحركها وتداعياتهما ستتجاوز حتما حدود اللحظة الراهنة، لأن الصورة الجديدة للدولة سيستتبعها سياسات داخلية وخارجية أكثر حسما، ستضع مواجهة إيران فى المقدمة، نحن باختصار أمام مرحلة مفصلية قد تغير وجه المنطقة فى المستقبل القريب.
إن التطورات المتلاحقة وما صاحبها من تصريحات عدائية متبادلة على الجانبين الممثلين للمعسكرين السعودى والإيرانى تمضى نحو التصعيد، فسبب استقالة الحريرى كما ورد فى كلمته هو التدخل الإيرانى السافر فى شئون بلاده عبر «حزب الله» لدرجة بات يخشى فيها على حياته، وأنها جاءت بعد لقائه على أكبر ولايتى مستشار المرشد الأعلى على خامنئي، الذى ضم لبنان إلى محور إيران ـ سوريا دونما اعتبار للصيغة التوافقية التى قامت عليها الحكومة اللبنانية، مُغلبا جانبا واحدا فيها، وزاد من حدة الموقف ما صرح به رئيس الجمهورية حسن روحانى بأن أى قرار ُيتخذ فى لبنان أو الدول المجاورة لا يمر إلا بموافقة إيرانية، وهو ما دعا وزير الدولة السعودى ثامر سبهان إلى القول «إن يد إيران يجب أن تُقطع فى لبنان والمنطقة».

وبعيدا عن هذا التراشق اللفظي، فمن الصعب قصر تلك الاستقالة على نطاقها المحلى أو النظر إليها على أنها مجرد رد فعل من السنة وتيار المستقبل الذى يقوده رئيس الوزراء المستقيل ضد ممارسات حزب الله، ولكنها ترتبط وفى الأساس بالوضع الإقليمى والصراع الدائر منذ عقود بين الرياض وطهران، وهى ليست سوى حلقة من حلقاته، تزامنت مع فصل آخر بإطلاق الحوثيين فى اليمن صاروخا باليستيا إيرانى الصنع على العاصمة السعودية، التى صرحت بـ»أنها لن تصمت على هذا التهديد».
كل الأمور تدفع الآن إلى مواجهة كبرى بين الجانبين، إلا أن إيران تظل لها إشكالياتها وتحدياتها التى يجب أن تؤخذ فى الحسبان، فتاريخ التنافس بين الجانبين يعود إلى قيام الثورة الإسلامية فى إيران 1979 وتبنيها مشروعا إقليميا توسعيا من خلال أجندة خاصة لتصدير «الثورة» أى أن منهج تغيير الأنظمة والمجتمعات هو جزء لا يتجزأ من سياساتها الخارجية، بعكس السعودية التى تتبنى أجندة مناقضة تقوم على «الاستقرار» أو الحفاظ على الأوضاع القائمة، وبحكم التعريف فإن أى إستراتيجية للتغيير تكون أكثر هجومية وعدوانية وحماسا فى تطبيقها على خلاف مثيلتها الدفاعية التى قد تكتفى بالاحتواء أو صد الهجوم، والدخول فيما يشبه الحرب الباردة الطويلة مع الخصم يكون المكسب فيها بالنقاط،، وهو ما ينطبق تحديدا على هذا النمط من الصراع أو المنافسة. فى هذا السياق استطاعت إيران تحقيق مكاسب على الأرض فى العديد من الدول العربية لا يمكن تجاهلها بحيث أصبحت رقما صعبا فى أغلب الملفات.
بالإضافة إلى ذلك برعت فى استخدام الحروب بالوكالة، إذ إن الحرب النظامية المباشرة الوحيدة التى خاضتها كانت مع العراق فى الثمانينيات، وهى تفعل ذلك إما عبر وكلاء تقليديين أى أنظمة حكم كالنظامين السورى والعراقى مع الاختلاف النسبى فى درجة التحالف، أو من خلال جماعات محلية موالية لها تمتلك ميلشيات مسلحة مثل حزب الله فى لبنان، وحركة الحوثيين فى اليمن والتى تعد استنساخا منه، وقوات الحشد الشعبى فى العراق وغيرها، وهذا العامل لا يمكنها فقط من المراوغة إنما يطيل أمد الصراع بما يصعب معه تحقيق نصر حاسم عليها ويفرض على من يواجهها اللجوء إلى أساليب مشابهة، بإنشاء جماعات أو ميليشيا سنية محلية مضادة، لكن مع الأخذ فى الاعتبار أن المعسكر السنى منقسم، فالموقف السعودى والإماراتى على سبيل المثال يختلف عن مثيله التركى أو القطرى فى حين أن قيادة المعسكر الشيعى موحدة متمثلة فى إيران، بل أن لأنقرة والدوحة أجندتهما ومصالحهما الخاصة مع طهران، والشيء نفسه ينطبق على حركة حماس السنية، بعبارة أخري، ليس هناك تصنيف طائفى خالص بالمعنى الكلاسيكى ما يزيد الأمور تعقيدا.
أما العامل الدولى الذى استفادت منه، فكان فى عقد اتفاقها مع الولايات المتحدة وأوروبا بخصوص سلاحها النووى المعروف باتفاق (5+1) فى عهد إدارة باراك أوباما، الذى بموجبه غضت الأخيرة الطرف عن سياستها فى المنطقة، وكانت وراء عقد الصفقة بين الفرقاء اللبنانيين التى تشكلت على أساسها حكومة الحريري، بمشاركة قوية من حزب الله وفاز فيها ميشيل عون برئاسة الجمهورية، قبل أن تنهار تلك المعادلة أخيرا.
عندما جاء دونالد ترامب بسياسة مغايرة لسلفه، اختار المواجهة بديلا عن الاحتواء، واعتبر إيران مصدر الإرهاب فى العالم، وأدرج الحرس الثورى وقياداته على لائحة الإرهاب، وكذلك فعل مع حزب الله، وأعلن عزمه مراجعة الاتفاق النووي، وإن لم يحظ بموافقة من الكونجرس والشريك الأوروبي، لكن فى الوقت ذاته ـ وهذا هو الأهم ـ قال إنه لن يخوض حروبا عسكرية تُكبد بلاده خسائر فادحة مثلما حدث فى أفغانستان والعراق، بالتالى فإن نوع المواجهة التى يريدها تعتمد فى الأساس على السعودية، التى يراها أكثر استعدادا لها فى الوقت الراهن، وهو ما عرض استراتيجيته لكثير من الإنتقادات داخل الدوائر الأمريكية نفسها فوصفها دنيس روس، الدبلوماسى والسياسى المعروف، بأنها تفتقد إلى آلية للتطبيق، وقال عنها توماس فريدمان الكاتب الصحفى الشهير إنها تدفع إلى حروب إقليمية تخرج عن حدود السيطرة.
فى كل الأحوال، وفى ظل هذا التصعيد ستتحول الحرب الباردة السعودية - الإيرانية إلى حرب ساخنة تقود ـ إن آجلا أو عاجلا ـ إلى مواجهة شاملة تبدأ من لبنان ولن تكون إسرائيل بعيدة عنها لتحجيم حزب الله ومن ورائه إيران، أما مداها فسيبقى مفتوحا.

 

 

عن المصالحة مع الإخوان

فى حوار الرئيس عبدالفتاح السيسى مع قناة «فرانس 24» قبيل زيارته باريس الأسبوع الماضى, طُرح سؤالا عن إمكان المصالحة مع جماعة الإخوان, وكان رد الرئيس بأن «الإجابة عند الشعب المصرى» أى أن القرار بيد المصريين, وليس فقط صانع القرار, إذ بعد تجربة حكم الإخوان واختبارهم للمرة الأولى فى السلطة وفشلهم فيها, أصبح الوضع مختلفا, فتلك التجربة وضعت الشعب فى قلب المعادلة, التى كانت مقصورة على النظام من ناحية والإخوان من ناحية أخرى, كذلك فإن أحداث العنف التى تلتها وتورطت فيها الجماعة سواء بشكل مباشر, من خلال ما عُرف بتنظيم «حسم», أو غير مباشر بالتعاون والتنسيق مع الجماعات التكفيرية فى سيناء, قد غيرت الصورة الذهنية التى رسمتها الجماعة لذاتها لدى الرأى العام على مدى العقود الماضية, باعتبارها جماعة سياسية سلمية.
لكن رغم ذلك, فإن توجيه السؤال من الميديا العالمية يظل له مغزاه ويشير إلى أمرين رئيسيين, الأول أن هذه القضية مازالت مطروحة على الساحة الدولية وتحديدا فى الدوائر الغربية, الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى, اللذين يربطانها بقضايا الحريات وحقوق الإنسان, والآخر هو النظر إلى ما حدث فى 30 يونيو على أنه مجرد حلقة من حلقات صدام الجماعة مع السلطة السياسية سيتم تجاوزها أيا كان المدى الزمنى الذى ستستغرقه, فقد مرت طوال تاريخها بأزمات عنيفة مع الأنظمة الحاكمة فى مختلف العهود السياسية تسميها أدبياتها بــ «المحن» أى منذ قرار حلها الأول الذى اتخذته حكومة النقراشى فى الحقبة الملكية أواخر الأربعينيات وما ترتب عليه من إغلاق مقراتها ومصادرة ممتلكاتها واعتقال كوادرها وأعضائها على خلفية حوادث العنف والاغتيالات التى قامت بها, مرورا بقرار الحل الثانى, بعد تصالح لم يستمر طويلا مع نظام ثورة يوليو, إثر محاولة اغتيال جمال عبد الناصر فى المنشية (1954) ثم فى 1965 لنفس الأسباب, والتى انتهت بصدور حكم الإعدام على مُنظرها سيد قطب, إلى أن جاء حكم السادات فى أوائل السبعينيات ليعيدها إلى سابق عهدها وإن لم تحظ بترخيص قانونى, ولم يختلف الأمر كثيرا فى عهد مبارك حيث تمتعت بحرية الحركة فى المجال السياسى والمشاركة فى الانتخابات بل وأقامت صرحا اقتصاديا ضخما, وأخيرا اعتلاؤها السلطة بعد ثورة يناير, ولكن فى النهاية التاريخ لا يعيد نفسه مهما راهنت عليه الجماعة, فالوضع الداخلى الآن تغير جذريا, وخصومتها أصبحت مع الدولة والمجتمع معا, ولم تعد المصالحة مطروحة من الأصل.
فى المقابل, فإن رهانها على الأوضاع الإقليمية والدولية مازال قائما, فعلاقاتها الممتدة مع قطر توفر لها الدعم والمساندة والإقامة الآمنة, وهى علاقة تحقق مصلحة متبادلة للطرفين, لأنها جزء من معركة الدوحة مع السعودية, الطرف الأقوى فى العلاقات الخليجية, وسعيا لإيجاد مرجعية دينية أو بالأحرى سياسية مستقلة, ومن هنا أصبح الشيخ الإخوانى يوسف القرضاوى هو الداعية الرسمى لها, ونفس الشيء ينطبق على تركيا, وإن كان المنطق مختلفا, فأنقرة مشغولة بتصدير نموذجها فى الحكم (حزب العدالة والتنمية الإسلامى) إلى الشرق الأوسط ليكون مركز ثقلها فى المنطقة, والأهم من ذلك هو اعتماد الجماعة على الفوضى الحالية التى يشهدها الإقليم, واهتزاز كثير من دوله من سوريا إلى ليبيا واليمن, ووقوعها فى حروب أهلية وطائفية ومذهبية, ليكون لها دور ونصيب فى السلطة حال إعادة ترتيب أوضاعه.
فى هذا السياق يأتى سعى الجماعة للاستفادة من الغرب وبالأخص القوة العظمى, أى الطرف الأمريكى صاحب أكبر نفوذ فى المنطقة, ليس فقط بقواعده العسكرية الموزعة على أكثر من بلد, وإنما أيضا لانغماسه فى تسويه صراعاتها وفق مشروعه المعروف بـ«الشرق الأوسط الكبير», وقد صرح وزير الخارجية ريكس تيلرسون أكثر من مرة بأنها تتمتع بوجود قوى فى المنطقة. والسؤال الجوهرى كيف تُسوق الجماعة لنفسها على هذا الصعيد؟
لا شك أن جانبا من الإجابة يتمثل فيما يقوم به تنظيمها الدولى, المتغلغل فى أوروبا وأمريكا منذ عقود, للتأثير على دوائر صناعة القرار وبعض الأوساط البحثية والإعلامية, فضلا عن إقامته شبكة واسعة من المؤسسات والمراكز الإسلامية والجمعيات الخيرية للتغطية على نشاطه السياسى, ناهيك عن الانخراط فى المنظمات الحقوقية, لذلك لم يكن غريبا أن تكون «هيومان رايتس ووتش» وهى أكبر منظمة دولية عاملة فى مجال حقوق الإنسان والأكثر قربا من وزارة الخارجية الأمريكية, من أشد الرافضين لإدراج الجماعة ضمن لائحة الإرهاب.
الإخوان يُروجون لأنفسهم باعتبارهم جماعة تنبذ العنف, تؤمن بالديمقراطية والانتخابات وأنشأوا حزبا سياسيا (الحرية والعدالة) لهذا الغرض كى تكتمل الصورة والرسالة التى أرادوا إيصالها للخارج ليتأكد التمييز بينهم وبين التنظيمات المتطرفة المسلحة مثل داعش والقاعدة, وأنهم رمز للاعتدال والوسطية وساعدهم على ذلك وجود تيارات إسلامية سلفية أكثر غلوا فى تطرفها الفكرى وفى فتاويها المتعلقة بالنواحى الفردية والمجتمعية, التى تمتلئ بها الساحة العامة, بحيث أصبحت على يمينهم, وتوارت معها كل محاولات إصلاح الخطاب الدينى, بعبارة أخرى, إن صفة الاعتدال الظاهرى التى يشيعها الإخوان لم تأت نتيجة تأصيل نظرى أو اجتهاد مستنير, ولكن من مناخ ثقافى جامد مغلق موجود بالفعل, وهذا عنصر قوة لهم نجحوا فى توظيفه حتى إن بعض الأوساط الغربية تشبههم بالأحزاب المسيحية الديمقراطية, التى لا تشذ عن القواعد السياسية المعمول بها ونظام القيم السائد إلا فى طابعها المحافظ.
لهذه الأسباب, بقيت مسألة تصنيف جماعة الإخوان كـ «إرهابية» محل جدل كبير خاصة فى واشنطن, صحيح أن هناك أصواتا طالبت بذلك إلا أن إدارة أوباما لم تأخذ بها بدعوى عدم وجود أدلة موثوق بها تثبت لجوءهم إلى العنف, وهناك أيضا مشاريع قوانين تبناها بعض أعضاء الكونجرس, آخرها مشروع السناتور الجمهورى تيد كروز فى ظل الإدارة الحالية لترامب, لكن لم يحدث شىء, وأخيرا تصريحات بنفس المعنى لمايكل ماكول رئيس لجنة الأمن الداخلى بالكونجرس, إلا أن الخارجية والبيت الأبيض لم يبديا تضامنا مع هذا المنحى.
إذن المعركة مع الإخوان مازالت مستمرة, وجانب أساسى فيها يتعلق بتجديد الخطاب الدينى, لأنه يجردها من سلاح «الاعتدال», لذلك فإن الإجراء الذى اتخذه الملك سلمان فى السعودية بتشكيل هيئة لتدقيق ومراجعة الأحاديث بما فيها ما جاء فى البخارى والتى تُستخدم فى تبرير العنف، تظل له أهميته القصوى فى المرحلة الراهنة وليس بعيدا عما نتحدث عنه.