د. هالة مصطفى تكتب: الضغوط الأمريكية على مصر

د. هالة مصطفى تكتب: الضغوط الأمريكية على مصر
د. هالة مصطفى تكتب: الضغوط الأمريكية على مصر

لم تمض أيام على استخدام الولايات المتحدة حق «الفيتو» ضد مشروع القرار المصرى فى مجلس الأمن, الداعى إلى عدم تغيير الوضع القانونى لمدينة القدس, حتى جاء تهديد الرئيس الأمريكى ترامب بقطع المساعدات عن الدول التى صوتت لصالح المشروع الآخر الذى قُدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة (رغم عدم تمتع قراراتها بالصفة الإلزامية) وهو تهديد موجه إلى حلفائه الإقليميين, وفى مقدمتهم مصر والأردن باعتبارهما أكبر متلقيين لهذه المساعدات بعد إسرائيل، إضافة إلى أن زيارة نائب الرئيس مايكل بنس إلى القاهرة والتى تقرر تأجيلها على خلفية تداعيات قضية القدس, كان مقررا لها أن تناقش حال الحريات الدينية وتحديدا ملف الأقباط, وأخيرا جاء التقرير المطول الذى نشرته صحيفة النيويورك تايمز تحت عنوان «مصر حليف سيئ لواشنطن» ليؤكد مع المؤشرات السابقة عمق الخلافات التى تعترى العلاقات المصرية الأمريكية على عكس ما يبدو على السطح أحيانا. أهمية هذا التقرير ليس فى كونه الأول ولكنه الأشمل, فضلا عن أنه يعكس بشكل مفصل ما دار ذومازال- فى الكونجرس بشأن مصر, والأهم أنه يتوافق مع مواقف وتصريحات ترامب المتحررة من أى لغة دبلوماسية, كما يذكرنا بما سبق وقاله الرئيس السابق باراك أوباما قبيل مغادرته المنصب بأن مصر لا تُعد حليفا وإنما مجرد صديق.

يبدأ التقرير بالتشكيك فى وصف العلاقات بين الجانبين المصرى والأمريكى بــ «الإستراتيجية» على أساس التناقض المتزايد فى المصالح وتضاؤل حجم الأهداف المشتركة, موجها فى ذلك انتقادات حادة للسياسة المصرية داخليا وخارجيا, ويركز بصفة خاصة على التعاون العسكرى بين القاهرة وموسكو, معتبرة من الأعمال العدائية ضد واشنطن مثلما كان الحال مع كوريا الشمالية, وكذلك بالنسبة للتوجهات والتحالفات الاقليمية فى بؤر الصراع, من ليبيا بسب دعم مصر قوات المشير خليفة حفتر التى تصطدم مع حكومة فائز السراج المدعومة أمريكيا وغربيا, إلى سوريا والموقف من نظام بشار, ثم العراق الذى لم تشارك فيه مصر التحالف الدولى حربه ضد تنظيم داعش, وزعم التقرير فى النهاية تراجع دورها الإقليمى بشكل عام مما يقلل من أهميتها للإستراتيجية الأمريكية فى الشرق الأوسط, والأخطر هو ما ذكره حول ضرورة تغيير نمط تسليح الجيش والتدريبات العسكرية المشتركة لتتمحور فقط حول محاربة الإرهاب, وهو ما رفضته مصر, وامتد الأمر أيضا إلى اتجاهات التصويت فى الأمم المتحدة والموقف من القضية الفلسطينية وإسرائيل والتى عدها جميعا فى تعارض مع الولايات المتحدة, وأخيرا جاءت قضايا الحريات وحقوق الانسان وقانون الجمعيات الأهلية الجديد ليضيف بعدا آخر فى قائمة الانتقادات ولينتهى إلى المطالبة بتخفيض المعونة العسكرية وجعلها مشروطة بأكثر مما تم فى السابق.

ما يهمنا التوقف عنده هنا, ليس هذا التقرير فى ذاته, وإنما لتطابقه تقريبا مع وثيقة الأمن القومى, التى أعلنها ترامب منذ أيام، فروسيا (إلى جانب الصين) هى المنافس للسياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط وتحالفها أو تعاونها مع دول الإقليم فى المجالين العسكرى والنووى, يشكل تحديا رئيسيا يجب مواجهته, وأن إسرائيل ليست هى مصدر التهديد أو سبب الصراع وعدم الاستقرار فى المنطقة, بل إيران والتنظيمات الإرهابية, وأن الشراكة مع القوى الإقليمية يجب أن تخضع لهذه الرؤية, وهو تحول وصفته الواشنطن بوست, بأنه الأهم منذ عقود على صعيد السياسة الأمريكية, وفى المقابل وتحت شعار «أمريكا أولا» قللت الوثيقة من أهمية الاتفاقات المتعددة الأطراف, لتكرس فكرة الأحادية القطبية, وكأنها صورة أخرى من مبدأ إدارة جورج بوش الابن «من ليس معنا فهو ضدنا».

أما عن الكونجرس, فلم يكن تقرير النيويورك تايمز, سوى ترجمة حرفية لما أثير فى جلساته حول مصر, تحديدا تلك التى عُقدت فى مايو الماضى وتم الاستماع فيها إلى شهادة ثلاثة من الخبراء, جاءت كلها سلبية, وأوصت بتخفيض وتجميد أجزاء من المعونة الاقتصادية والعسكرية, وهو ما استجابت له الإدارة فى النهاية, ولم يتغير الموقف حتى اليوم, بل هناك مطالبات بمزيد من التقييد فى المعونة, ومنذ أسبوع تقدم ستة من أعضائه بمشروع قانون يتعلق بحماية حقوق الأقباط وحرية بناء الكنائس فى مصر تأكيدا على نفس الاتجاه.

باختصار هذه القضايا وغيرها ستكون محلا لخلافات شديدة بين القاهرة وواشنطن الفترة المقبلة, وستزداد الضغوط الأمريكية لأنها ترتبط هذه المرة بإعلان ترامب عن بداية وضع «صفقة القرن» موضع التنفيذ مطلع 2018, وجوهر هذه الصفقة -بعيدا عن تفاصيلها الأخرى ووفقا لما تم تداوله فى الدوائر السياسية والإعلامية الأمريكية- يقوم على أساس تبادل الأراضى حيث يتم التخلى عن جزء من أراضى سيناء (تصل إلى 720 كم 2) مقابل تنازل إسرائيل عن مساحة مماثلة من صحراء النقب, بهدف حل مشكلة غزة التى تُعد من أكثر مناطق العالم كثافة سكانية, على أن تضطلع السعوديةـ وفق هذا الافتراض- بتمويل ما يحتاجه الوضع الجديد من تنمية ومشروعات بنية أساسية (شق طرق وكبارى ومحطات تحلية مياه ومنافذ بحرية وجوية) علاوة على إنشاء منطقة حرة شمال سيناء لإنعاش الوضع الاقتصادى, وهو ما عبرت عنه صراحة وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية أجيلا جمئيل أثناء زيارتها للقاهرة الشهر الماضى بأن توطين الفلسطينيين فى سيناء هو الحل الجذرى للقضية الفلسطينية, ولم تكن مصادفة أن تكشف بعدها الـ ـ«بى بى سى» عن وثائق نفاها الرئيس الأسبق مبارك تتعلق بموافقته على «المبدأ» ضمن تسوية شاملة للنزاع الفلسطينى الإسرائيلى. من هنا جاءت التصريحات القاطعة للرئيس عبد الفتاح السيسى بعدم المساس بأرض سيناء وتخصيص مائة مليار جنيه لمشروعات التعمير بها أو بعبارة أدق رفضه لصفقة القرن.

لن تنتهى الضغوط الأمريكية على مصر وقد لا تقتصر على المساعدات, بل ربما تعدتها للإضرار بمصالحها على مستويات أخرى سواء فيما يتعلق بسد النهضة فى إثيوبيا، أو دعم السودان فى مزاعمها حول أحقيتها فى حلايب وشلاتين، أو السعى لإفساد علاقاتها الخليجية خاصة مع السعودية، أوفى الملفات الإقليمية الأخرى عموما, والسيناريو المتوقع أن يتم تجاوز الأزمة مؤقتا دون حل جذرى للقضايا العالقة، أى أن تستمر فى حالة الصعود والهبوط, أو أن تصل إلى مرحلة الصدام على المدى الأطول, حال إصرار ترامب على تمرير صفقة القرن.