حسنى حنا يكتب: دمشق في القرن التاسع عشر.. بقايا صور

حسنى حنا يكتب: دمشق في القرن التاسع عشر.. بقايا صور
حسنى حنا يكتب: دمشق في القرن التاسع عشر.. بقايا صور

"دمشق شكل من أشكال الخلود..."

*Mark Twain

 

يجمع المؤرخون على أن مدينة دمشق، هي من أقدم مدن التاريخ التي لاتزال مأهولة الى اليوم..

ورد ذكرها في النصوص المصرية القديمة، وعرفت بأسماء متعددة منها (داماسكي) في ألواح (إيبلا Ebla) حوالي عام (2000 ق.م) كما ورد ذكرها في النصوص الآشورية والآرامية. وعرفت في اللاتينية باسم (Damascus) وباسم (الشام) بعد دخول العرب إليها وتعرف أيضاً باسم (مدينة الياسمين)!..

وكانت دمشق عاصمة لأهم الممالك الآرامية في سوريا الداخلية.

استمرت عظمتها في العهود التالية، زمن الحكم اليوناني وحكم الرومان والبيزنطيين. وقد خضعت لحكم العرب في العام (637م) ثم للحكم العثماني في العام (1516م) إلى أن نفضت عنها غبار السنين في مطلع القرن الماضي.

وتقع مدينة دمشق في سهل خصيب، ترويه الأنهار والينابيع. أهمها (نهر بردى) وقروعه. وهو الذي يشكل غوطة دمشق، و(نبع الفيجة) الذي ترتوي منه المدينة. ويتميز موقع دمشق بوجود (جبل قاسيون) المطل على المدينة.

 

 

الكتابة عن مدينة دمشق

الكتابة عن دمشق، يمكن أن تشكل دراسة مصغرة، عن اوضاع بلدان المشرق العربي عامة، والمدن العربية خاصة. ومدينة دمشق اليوم، لاتشبه في شئ، مما كانت عليه قبل نحو مائة وخمسين عاماً مضت.. انها اليوم مدينة حديثة متطورة، بنيت مكان مدينة، لايكاد المرء يعرف عنها شيئاً، ولولا احتفاظها ببعض لآثار القديمة، كالأبواب، وأجزاء من السور، وعدد من دور العبادة. ولولا أن جبل قاسيون يجاورها، لأنكرها من يراها اليوم، وقد رآها قبل هذا الزمان!.

 

 

سور مدينة دمشق وأبوابها

يعد سور دمشق من أهم المعالم الآثرية في المدينة العريقة. وكان قد بني في العهدين الاغريقي والروماني. وعلى هذا السور سبعة أبواب هي: (باب توما- باب كيسان- لباب الشرقي- باب الصغير- باب الجابية- باب الفراديس- وباب السلامة).

 

الدخول الى دمشق القديمة

لو عاد بنا الزمن الى الوراء، قرابة قرن ونصف، سوف ندخل مدينة دمشق من أحد أبوابها، في طريق ضيقة، كما كانت أكثر طرق المدينة. فلا شوارع بالمعنى الذي نعرفه اليوم، حيث تتقارب البيوت، وتتكاثر القناطر، ذات المشربيات، كما لم تكن فيها ساحات واسعة. وقد كان احتكاكها بأوروبا قليلاً جداً.

على عكس مدن الساحل السوري. وهي تفاجئ القادم، منذ خطواته الأولى بالصحراء، التي تلامس دمشق، وتنفلت الى اللانهاية. ودمشق تنام مرتاحة في حضن غوطتها الغناء، وأنهارها المتدفقة!.

 

بيوت دمشق

كانت بيوت دمشق، متشابهة في المظهر الخارجي، فما تستطيع دائماً التمييز بين بيت وآخر، وقد تختبئ خلف أحد الجدران الطينية العالية. وهي في الغالب باهتة اللون. وفي الداخل أحواض مياه ونوافير، وأشجار ليمون ونارنج وياسمين، تزين باحة الدار الداخلية. إلى جانب جمالات آخرى من كل لون!..

وفي كتاب (الروضة الغناء في دمشق الفيحاء) لمؤلفه (نعمان قساطلي) والذي ظهر في العام (1876) نجد توصيفاً تفصيلياً، لما كانت عليه العمارة وبرك الماء في الدور والأشجار والأزهار، والنباتات العطرية، إضافة الى أنماط العيش وطقوس الأفراح!.

ويقدم لنا العالم والرحالة (ماكس فون أوبنهايم M.V.Oppenheim) صورة فريدة عن بيوت دمشق وأهلها. وهو الذي زار عدداً من المدن السورية الأخرى!..

 

الخانات والفنادق

(الخانات) هي أماكن لاستقبال التجار والمسافرين مع دوابهم. وقد قامت (أوليفيا ريمي كونستابل) وهي مؤرخة أمريكية بدراسة الخانات في بعض المدن العربية، ومنها دمشق،على مدى عشرة قرون. وكان في دمشق مايزيد عن (140) خاناً مختصة بأصحاب التجارة، كما كان بعضها مخصصاً للدواب، والمكاربين والفقراء.

ولم يكن في دمشق حوالى العام (1879) غير فندق واحد وكانوا يدعونه (لوكاندا) وموقعه في سوق الخيل.

 

السكان والحياة الاجتماعية

كان سكان دمشق قبل نحو مائة وخمسين عاماً، يرتدون (القنابيز)، ويتمنطقون فوقها بشال، أو زنار حريري، وغير ذلك.. وكان اليهود والمسيحيون وبعض المسلمين، يلبسون على رؤوسهم (الطرابيش) الاستانبولية. وأكثرية المسلمين يتعممون بعمائم صغيرة من (الأغباني) كما يلبسون (الطيلسانات) الطويلة فوق ملابسهم.

وأغلب الرجال كانوا حليقي الرؤوس، لأن إطلاق شعر الرأس كان شيئاً معيباً. وقد تنساب بعض النسوة، مؤتزرات بالملاءات البيضاء الطويلة كالأشباح، بينما تغطي وجوههن البراقع. وأكثرها أسود اللون، مثقوب عند العينين. وقد انتشر بين الناس شرب القهوة، وتدخين النارجيلة.

وكانت بعض العائلات، تذهب بين حين وآخر الى الغوطة لقضاء النهار وسط الاشجار والمروج والمياه والسواقي المتدفقة!.

 

 

الأسواق في دمشق

إن أكثر مايجذب الاهتمام في دمشق، في تلك الأيام، كانت أسواقها. وهي مجتمعة في أنفاق معقودة السقوف. لكل صنف من البضائع سوقه الخاصة. فهناك سوق الدقاقين الذين يدقون الأقمشة الحريرية. وسوق الحبالين، وسوق العلبية، وسوق التتن (التبغ) وسوق الخراطين، وسوق النسوان. وهي جزء من سوق الأروام. وفي هذه الأخيرة، كانت تباع الأسلحة والسجاجيد والأحجار الثمينة. والغلايين الخشبية الطويلة.

وكان لكل حانوت مصطبة مرتفعة، متقدمة في الطريق، يجلس عليها التاجر. ويستطيع أن يصل منها الى مايشاء من السلع، المرصوفة على الرفوف، عن جانبيه وورائه!..

وأسواق دمشق مليئة بالحياة. وهي الملتقى اليومي للمتنزهين. وخاصة النساء، اللواتي يقفن جماعات على أبواب الحوانيت. على أنه ليس في الباعة امرأة واحدة. فالتقاليد الدمشقية، لاتسمح للنساء بمزاولة مهنة البيع!..

ويسود في الأسواق الكثيرة، تنوع في البضائع، التي قد لاتوجد في بلد آخر، كمواد التجميل والعطور، والمربيات والحرائر والفضيات والنحاسيات. وهي تعطي فكرة عن غنى المدينة ورفاهها.

وتغلق الأسواق الكبيرة، وعدد من الأسواق الصغيرة. بعد غياب الشمس، بساعة او ساعتين، ليذهب التجار لاستنشاق الهواء النقي في المقاهي والحدائق، على ضفاف نهر بردى. وهكذا يمر بهم قسم من الليل، مما يضطرهم الى فتح دكاكينهم، بعد ان تتعالى الشمس في صفحة السماء.

ويبالغ تجار دمشق بالأسعار، التي يطلبونها من الأجانب والغرباء، ولكنهم لايغضبون، إذا عرض عليهم مشتري السلعة حتى أقل من نصف الثمن المطلوب. والمهم في الأمر، أن ينتهي البائع والشاري، في جميع الحالات الى اتفاق ما!...

 

 

الحمامات العامة

كان عدد الحمامات العامة في دمشق يزيد قليلاً على ستين حماماً عمومياً. والحمامات العامة وسيلة لقضاء الوقت بالدرجة الأولى، وهي للنظافة ثانياً. يجتمع فيها الأصحاب في حلقات لتبادل الأحاديث، وتناول الأطعمة المحلية المشهورة. والفواكه وغيرها!..

 

 

المدارس

كان عدد المدارس قليلاً جداً في تلك الأيام. وكذلك عدد المعلمين والطلاب، كما كان انتشار الكتاتيب محدوداً أيضاً!..

 

 

التجوال في دمشق

من المعروف أنك إذا رمت السلامة في تجوالك، فإنه لابد لك من اصطحاب أحد الأدلاء. وتفيدك دون ريب مرافقة (قواس) الفندق أو القنصلية، عند زيارتك المسجد الأموي.. والسير في دمشق كان غير مأمون العواقب، خاصة في الليل، فالشوارع غير مضاءة. وتقضي أنظمة الشرطة، بأن يحمل السائر في الليل فانوساً، أو مصباحاً من أي نوع كان، وإلا تعرض للقبض عليه والتوقيف!..

وهذا التدبير حكيم دون شك، فهو أولاً يبعد عنك المفاجآت غير الستحبة، وهو يسهل عليك التنقل في المسالك المتعرجة، ذات الحفر والأخاديد.. اما إذا خطرت لك فكرة قضاء السهرة في أحد الملاهي، فلك الخيار في أن تقصد ملهاً بلدياً يدخن فيه الناس (النارجيله) ويلعبون (النرد) بينما هم يستمعون الى (الحكواتي) الذي يقص عليهم مايصدق وما لايصدق من الأخبار وبين أن تذهب الى مسرح (الاشباح السوداء) التي تقفز وتقوم بحركات بهلوانية، تتكلم بالسجع، ويصفق لها المشاهدون!..

 

 

دمشق في مرآة الآخرين

إنها دمشق.. المدينة التي جذبت بسحرها وألقها، وتجدد حضارتها، الكثيرين من الرحالة والأدباء والشعراء، وفناني العالم، الذين كتبوا عنها أجمل الصفحات، وقد كان من بينهم الشاعر الفرنسي الشهير (لامارتين Lamartine) والكاتب والروائي الأمريكي الكبير (مارك توين Mark Twain)

 

لامارتين في دمشق

ألفونس دي لامارتين كاتب وشاعر رومانسي وسياسي فرنسي. قام بزيارة لى بلاد الشام، حيث زار بيروت ودمشق وحلب والقدس وكتب عنها ذكريات وانطباعات!.

قدم لامارتين الى دمشق من بعلبك، في شهر نيسان من العام (1833) وقدم لنا وصفاً رائعاً لهذه المدينة، التي سحرت فؤاده، وحركت شاعريته.. فكتب عن حياة مدينة مفعمة بالتأمل والجمال والحيوية والأشراق.

في حديثه عن مدينة دمشق وأهلها، يبدي اعجابه بكياسة أهل دمشق وكرمهم. والانسجام بين الناس ويقول لامارتين: "ليس هناك مكان يشبه جنة عدن، كما تشبهها دمشق، سهلها الواسع الخصيب، والتفرعات السبعة للنهر الأزرق (بردى) الذي يرويها، والجبال التي تكلها، والبحيرات الباهرة حيث تنعكس السماء على صفحتها.. موقعها الجغرافي واعتدال مناخها. كل شئ يشير الى أن دمشق التي بناها البشر، هي مكان قيلولة طبيعية للأنسانية التائهة".

ويصف لامارتين مدينة دمشق، التي وصلها مع القافلة فيقول أيضاً: "تقدمت وحدقت بنظري من خلال فجوة في الصخرة، الى أروع وأغرب أفق.. دمشق واحدة من تلك المدن التي كتبتها يد الله على الأرض، إنها عاصمة العناية الآلهية، تماماً كالقسطنطينية، لم يدهش مثله نظر إنسان من قبل، إنها دمشق وصحراؤها التي لاحد لها".

ووصف لامارتين أيضاً أسوار دمشق، وأبراجها المربعة التي لاتحصى، وذكر فروع نهر بردى السبعة، والسواقي التي لاتعد، مبيناً أنها ممتدة على مدى البصر. فلا يترك المرء فتنة، إلا ويجد فتنة أخرى"!.

 

 

مارك توين يكتب عن دمشق

مارك توين أديب وروائي أمريكي شهير. زار مدينة دمشق في العام (1869) وهو في طريقه لزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين.

ووصفها في كتابه (الأبرياء في الخارج The Innocents Abrad) الذي سجل فيه ماشاهده، خلال رحلته الى بلاد الشام، بلغة الاعجاب التي جمعها في الكتاب. وكانت قبل ذلك مقالات أسبوعية يرسلها لتنشر في أحدى لصحف الأمريكية وقد اخترنا منها مايلي:

"ارجع الى التاريخ قدر ماتشاء.. لقد كانت دمشق موجودة عبر الماضي السحيق. إن السنوات بالنسبة الى دمشق، ليست سوى لحظات.. في دمشق لاتقيس الزمن بالأيام والأشهر والسنين انما بالامبراطوريات، التي شهدت قيامها وإزدهارها، ومن ثم انحطاطها وفناءها"!..

وهويقول ايضاً:

"إن دمشق شكل من أشكال الخلود.. لقد شهدت إرساء مداميك بعلبك وطيبة ,افسس، وأبصرت هذه القرى تتطور الى مدن جبارة، تدهش العالم بعظمتها.. لقد عاشت دمشق كل ماحدث على الأرض، ولاتزال تحيا، وسوف تظل بحق، المدينة التي لاتموت"!.

كانت تلك لمحات خاطفة، عن مدينة دمشق، ومظاهر الحياة فيها، في القرن التاسع عشر لم تبق منها سوى ذكريات تكاد تضيع يرويها لنا أحد الناس المتقدمين في السن، أو كتاب عتيق أسمر الصفحات!..