توفيق حنا يكتب: مـن مآسـي تاريخـنـا الحـديـث نهايـة صداقـة ( مكـرم والنحـاس )

توفيق حنا يكتب: مـن مآسـي تاريخـنـا الحـديـث نهايـة صداقـة ( مكـرم والنحـاس )
توفيق حنا يكتب: مـن مآسـي تاريخـنـا الحـديـث  نهايـة صداقـة ( مكـرم والنحـاس )

 

 

يقول د . مصطفي الفقي في كتابه “ الاقباط في السياسة المصرية “ :

-  “ ليس من شك في ان مكرم عبيد هو الوحيد من بين السياسيين الاقباط الذي عبر حاجز الاقلية ، ليصبح شخصية عامة ، متمنعا بشعبيه واسعة بين المسلمين قبل الاقباط ، كما كان اول قبطي يتولي مسئولية رئيسية في حزب الاغلبية ، وقد نجح عبيد في ان يصنع جسورا قوية مع الراي العام المصري لسنوات طويلة ، وعلي الرغم من ان عبيد لم يصبح رئيسا لوزراء مصر ، فان اسهامه في السياسة المصرية الرسمية اعظم من اسهام كثيرين تولوا مسئولية ذلك المنصب “ .. وهذا حق .. ولكني اول ان اضيف ان مكرم عبيد كان مصريا بكل ما تحتويه هذه الصفة من قيم ـ ولعل شعوره العميق الصادق بمصريته هو الذي كان وراء عبوره حاجز الاقلية .

-  كما يقول مصطفي الفقي - دون ان يتعمد او يتكلف هذا العبور وكان يستحق - فعلا - ان يكون رئيسا لوزراء مصر .. وكان في اعماقه يشعر بحقه في تولي هذا المنصب ومدي استحقاقه له ،  ولعل احمد حسين بذكائه ، او بخبته - كان واعيا بهذه الرغبة الدفينه في اعماق هذا الرجل العظيم .. ولعل هذا الوعي وراء هذا الدور الذي لعبه في افساد هذه العلاقة الحميمة بين مكرم والنحاس يقول علاء الحديدي في كتابه عن “ مصطفي النحاس” : “ .. وكان العامل الحاسم في الخلاف بين مكرم والنحاس الدور الذي لعبه القصر ، خاصة احمد حسنين ، الذي وضع خطة وقع مكرم فريسة لها “ ولعل مؤامرة القصر - بقيادة المايسترو الذكي احمد حسنين - تبدا في يوم 12 مارس 1942 عندما “ دعا حسنين مكرم - كما يقول مصطفي الفقي - لمقابلة الملك وكان السبب الظاهري لذلك هو استشارته في مسائل اقتصادية ، ولكنها كانت مكيدة من حسنين لا يقاع الشقاق في صفوف الوفد :” ويقول مصطفي الفقي “ ومن المحتمل ان عبيد كان قد تلقي وعدا من الملك عن طريق احمد حسنين ، انه اذا نجح في احداث انقسام واضح داخل الوفد ، وفي استقطاب مجموعة مناسبه من الاعضاء حوله ، فانه سوف يطلب منه “ تشكيل الوزارة “ كان احمد حسنين بريد بوسيلة او باخري ان يرد علي حادث 4 فبراير كان يريد الانتقام للملك - للقصر - من الوفد وكان احمد حسنين يعرف ايضا - بجانب معرفته برغبه مكرم ان يكون رئيسا للوزراء - ان علاقة مكرم بالوفد .. وبالنحاس لم تكن كما كانت من القوة والعمق .. وان صداقة مكرم والنحاص نضعف يوما بعد يوم .. يقول مصطفي الفقي عن بدايات المؤامرة لتفتيت الوفد ، ولا فساد العلاقة الحميمة بين مكرم والنحاس “ خطط علي ماهر سياسته لا سقاط حكومة النحاس عام 1937 ، وتفتيت الوفد ، بمحاولة تكوين هاله اسلامية حول فاروق في مواجهه النحاس العلماني الذي يحتوي الاقباط في اطار الوحدة الوطنية ، وقد استخدم الازهر في حملته ضد الوفد تلك السياسة باستغلال الطابع الاسلامي الذي يضفيه علي الملك الجديد ، وهو الوضع الذي صاغه علي ماهر بالاشتراك مع الشيخ المراغي .. ولعل ذلك يلقي ضوءا علي دور القصر الملكي ومستشارين في وضع الجذور الاولي للخلاف بين النحاس وعبيد التي ظهرت علي السطح عام 1942 “ .

-  وهكذا نري الدور الخطير الذي لعبه المستشاران علي ماهر واحمد حسنين في محاولة القضاء علي حزب الوفد عن طليق افساد هذه العلاقة - هذه الصداقة - بين قطبي الوفد النحاس ومكرم ، ولقد ساعدتها ظروف متعددة سياسيا او اجتماعيا في نجاح خطتهما .. في ابعاد مكرم عن الوفد .. ويقول مصطفي الفقي معلقا علي خروج مكرم او اخراجه من حزب الوفد “ ومهما يكن الامر فان انفصال عبيد - القبطي البارز - من الحزب قد غير الي حد ما من الصورة التي عرف بها الحزب منذ ايام زغلول كحزب للوحدة الوطنية ، فقد كان وجود قبطي علي مستوي القمة في زعامة الوفد رمزا له معناه ومغزاه ، وكان يعطي دائما الحزب شخصية متميزة . وقد كان خروج عبيد من الحزب نهاية لحزب المؤسسين من الاقباط في الوفد من اولئك الذين بدأءه مع زغلول .. وكان فعلا اخيرا في المشاركة الواقعية للاقباط في الحياة السياسية “ .

-  هذه الصداقة الفريدة بين مكرم والنحاس والتي بدات في المنفي واستمرت رغم المحن والتجارب وعذابات والام الجهاد في سبيل حرية وكرامة الوطن والمواطنين .. استمرت اكثر من عشرين عاما .. كيف كانت نهاية هذه الصداقة ، يقول مصطفي الفقي في كتابة عن “ الاقباط في السياسة المصرية “ “ في مايو 1942 تم تعيين فؤاد سراج الدين وزيرا للاذاعة ، رغم اعتراض عبيد علي ذلك ، وفي اليوم التالي استقبل النحاس احمد حسين وعبيد ، كل علي حدة .... وحتي 29 يونيو 1942 اعلن النحاس - رسميا - في مجلس النواب ان عبيدا لم يعد سكرتيرا عاما للوفد ، واخيرا عقد الوفد في 6 يوليو 1942 اجتماعا طرد فيه عبيدا وراغب هنا من عضوية الحزب .. وفي 11 يوليو قررت المجموعة البرلمانية الوفدية في اجتماع لها تقديم اقتراح بطرد عبيد من عضوية مجلس النواب “ . وفي “ الكتاب الاسود “ وصف مكرم بعض الملامسات التي صاحبت خلافه مع النحاس .. ويقول مصطفي الفقي “ كتب “ الكتاب الاسود” في صورة عريضة الي الملك ، وتحتوي علي عدة فصول عن انواع مختلفة من الفساد والمحسوبية ، وقد صدرت النسخة الكاملة من “ الكتاب الاسود “ في 29 مارس 1943 في حوالي 500 صفحة وكان عنوانه الرسمي “ الكتاب الاسود “ في العهد الاسود وهكذا انتهت صداقة مكرم والنحاس هذه النهاية الماساوية...

-  يقول احمد بهاء الدين في تقديمه لكتاب “ الاقباط في السياسة المصرية “ ان مكرم عبيد في نظري ، هو احد الفرسان الذهبيين البارزين في مرحلة الجهاد الوطني في المرحلة بين ثورة 1919 وثورة 1952 كان القبطي الذي يحفظ القران ويرتله بصوت رحيم ويجسد الوحدة الوطنية ، الذي استطاع بشعبيته وكفاءته وجاذبيته وظهارته ان يكون سكرتيرا عاما للوفد والدنيامو المحرك له ما يقرب من عشرين عاما متولية .. لم ينجب سعد زغلول ابناء فقال له انه ابنه وصار من القابه السياسية “ ابن سعد “ .. وتمثل الفترة ما بين 1937 و 1942 العصر الذهبي لحياة مكرم عبيد السياسية ، فقد اصبح مكرم عبيد - منذ خروج احمد ماهر والنقراش عن الوفد سنة 1937 ، اقوي خطب في الوفد بلا منافس تقريبا ... وتعتبر شخصية عبيد تعبيرا عن الرغبة في تحقيق واقرار الوحدة الوطنية ، والسعي من اصل الاستقلال ، وهي الوحدة التي تعززت تحت زعامة زغلول ، كما كانت ايضا تعبيرا عن النضج الاجتماعي المصري في مناخ ليبرالي ديموقراطي ويقول احمد بهاء الدين عن نشاه هذه الصداقة بين مكرم والنحاس “ وقد نشات العلاقة الشخصية والسياسية بين النحاس وعبيد ، وتوطدت عن طريق مساهمتهما المشتركة في الحركة الوطنية منذ ايام زغلول ، خصوصا اثناء فترة المنفي ، عندما اصبحا صديقين جميمين حيث تمتع عبيد بمنزلة خاصة لدي سعد زغلول والنحاس “ .

-  ولقد سجل نجيب محفوظ - بعد ان سجل لقاءه مع سلامة موسي في “ السكرية “ - سجل تفاصيل هذه الماساه في نهاية “ السكرية “ - ايضا - في هذا الحوار الذي دار بين كمال احمد عبدالحوار وبين صديقة - القبطي - رياض قلدس .. واختار بوعي فني دقيق لحظات هذا الحوار قبيل الاستماع الي محاضرة عن شكسبير .. وكانه يريد ان يقول ان هذه الماساه التاريخية تستحق ان تكون موضوعا شكسبيريا يستحق التسجيل ...

-  كان هذا الحوار في قاعة ايوارت بالجامعة الأمريكية” كان رياض مغتما واجما وكان يهمس في اذن كمال بانفعال غير  خاف :

-  يفصل مكرم من الوفد ، كيف تقع هذه الخوارق ؟ ولم يكن كمال قد افاق من الخبر كذلك فهز راسه في وجوم دون أن ينبس.

-  انها كارثة قومية باكمال ، ما كان ينبغي ان تتهاوي الامور حتي هذا الحفيصن .

-  نعم ، ولكن من المسئول ؟

-  النحاس ، قد يكون مكرم عصبيا ، ولكن الفساد الذي تسرب الي الحكومة امر واقع ولا يصح السكوت عليه .

-  فقال كمال باسما .

-  دعنا من الفساد الحكومي ، ثورة مكرم ليست علي الفساد ، بقدر ما هي لضياع النفوذ فتساءل رياض في شيء من التسليم.

-  ايباع مكرم المجاهد بعاطفة زائلة ؟

-  فلم يتمالك كمال ان فمك قائلا : لقد بعت نفسك انت بهذه العاطفة الزائلة ! .. ولكن رياض قال دون ان يبتسم .

-  اجبني

-  مكرم عصبي ، شاعر ومغن ! عنده ان يكون كل شيء او لا يكون شيئا علي الاطلاق ، وجد نفوذه الماثور يتقلص فثار ثم وقف لهم وقفته في مجلس الوزراء مندرا علانية بالاستثناءات فاستحال التفاهم او التعاون ، حدث يؤسف له .

-  والنتيجة ؟

-  هناك السراي تبارك ولا شك هذا الاتفاق الجديد في الوفد ، وتتضمن مكرم في الوقت المناسب كما احتضت غيره من قبل ، وسنري من الان فصاعدا مكرم وهو يلعب دوره الجديد مع الاقليات السياسته ورجال السراي ، اما هذا واما العزلة ، لعلهم يكرهونه كما يكرهون النحاس او اكثر ، ومنهم اناس لم يكرهوا الوفد الاكراهية في مكرم ، ولكنهم سيحتضنونه ليهدموا الوفد اما عن المصير بعد ذلك فلا يمكن التنبؤء به .

-  فعبس رياض وقال :

-  صورة بشعة ، اخطا الاثنان ، النحاس ومكرم ان قلبي متشائم من هذه المعركة ثم بصوت اشعر انخفاضا :

-  سيجد الاقباط انفسهم بلا ماوي ، او ياوون الي حصن عددهم اللدود “ الملك “ وهو ماوي لن يدوم لهم طويلا ، واذا اضطهدنا الوفد كما تضطهدنا الاقليات فكيف يكون الحال .

-  فتساءل كمال متغايبا

-  لماذا تدفع بالامر خارج حدود الطبيعة ، مكرم ليس الاقباط ، والاقباط ليسوا مكرم ، انه شخص ذهب ، اما مبدا الوفد القومي فلن يذهب فهز رياض راسه في اسف سافر وقال :

-  هذا ما قد كتب في الجرائد ، اما الحقيقة فهي ما اعني ، لقد شعر الاقباط بانهم طردوا من الوفد ، وهم متلمسون الامان واخشي الا يظفروا به ابدا .

-  شعر كمال بامتعاض والم ، وبدت له لحظتذاك جماعات البشر وكانها تمثل مهزلة ساخرة ذات نهاية مفجعة ، ثم قال في صوت لا ينم عن ايمان .

-  عسي ان تكون مشكلة وهمية ، اذا نظرتم الي مكرم كرجل سياسي لا الامة القبطية.

-  هل ينظر اليه المسلمون علي هذا النحو؟!

-  هكذا انظر اليه انا !

-  فابتسمت شفتا رياض وقال :

-  اني اتساءل عن المسلمين فما دخلك انت؟

-  اليس موقفنا واحدا ، اعني انا وانت؟

-  بلي ، مع فارق بسيط ، وهو انك لست من الاقلية .

-  انها حقا - كما يقول نجيب محفوظ “ ومهزلة ساخرة ذات نهاية مفجعة “ وقد تمثلت هذه النهاية المفجعة في ان النحاس استخدم سلطانه كحاكم عسكري لا يداع مكرم السجن . كما يسجل علاء الحديدي في كتابه عن “ النحاس “ ويقول مصطفي الفقي “ وعندما اطلق سراحه من السجن في اكتوبر 1944 ، وعين وزيرا للماله في حكومة احمد ماهر ، القي عبيد خطبة رائعة في قاعة الوزارة باسلوب فيه ابتهال مخلص لله ، تحدث فيها عن الوحدة الوطنية بين المسلمين والاقباط واعاد تاكيدها ، وكان الشيخ المراعي موجودا هناك ، وعلق علي ما اتسم به خطاب عبيد من بلاغه: “ انه حديث شبيه بكلام المنصوفة “ ويقول د . علاء الحديدي في كتابه “ مصطفي النحاس “ في الفصل الرابع عن “ هبوط وانحدار الوفد 1942 - 1953 “ : “لم يكن عام 1942 عام صعود النحاس الي السلطة ، ولكن كانت هناك احداث اخري تنحدر باتجاه الوفد نحو السقوط ومن اهمها اتفاق مكرم عبيد عن الوفد بانشقاق مكرم بعد تشكيله لوزراته الخامسة مزح اخر .. كرسي قديم .. وهكذا ترك النحاس وحيدا ، ولم يعد النحاس العشرينات والثلاثينات “

-  وانتهت صداقة مكرم والنحاس .. انتهت العلاقة بين الصديقين الحميمين ، “ فلم يعد النحاس يخرج كل صباح في سيارة مكرم إلى بيت الامة ، كما كان يفعل ويعود معه في المساء “ .

-  هامش

* كم كنت اود ان اقرا كتاب د . مصطفي الفقي في ترجمته كاملة ... ولعلي اوفق في قراءة النسخة الانجليزية - اذا كانت الرسالة قد انشرت في كتاب وكم كنت اود - ان تترجم اسماء كبار الاقباط في صورتها القبطية .. مثل سيريل ( كيرلس) ومارك ( مرقس ) .. لعل القاريء العربي يطمئن اكثر الي الاسمين القبطين المالوفين - مرقس وكيرلس -

مـن مآسـي تاريخـنـا الحـديـث

نهايـة صداقـة ( مكـرم والنحـاس )

 

يقول د . مصطفي الفقي في كتابه “ الاقباط في السياسة المصرية “ :

-  “ ليس من شك في ان مكرم عبيد هو الوحيد من بين السياسيين الاقباط الذي عبر حاجز الاقلية ، ليصبح شخصية عامة ، متمنعا بشعبيه واسعة بين المسلمين قبل الاقباط ، كما كان اول قبطي يتولي مسئولية رئيسية في حزب الاغلبية ، وقد نجح عبيد في ان يصنع جسورا قوية مع الراي العام المصري لسنوات طويلة ، وعلي الرغم من ان عبيد لم يصبح رئيسا لوزراء مصر ، فان اسهامه في السياسة المصرية الرسمية اعظم من اسهام كثيرين تولوا مسئولية ذلك المنصب “ .. وهذا حق .. ولكني اول ان اضيف ان مكرم عبيد كان مصريا بكل ما تحتويه هذه الصفة من قيم ـ ولعل شعوره العميق الصادق بمصريته هو الذي كان وراء عبوره حاجز الاقلية .

-  كما يقول مصطفي الفقي - دون ان يتعمد او يتكلف هذا العبور وكان يستحق - فعلا - ان يكون رئيسا لوزراء مصر .. وكان في اعماقه يشعر بحقه في تولي هذا المنصب ومدي استحقاقه له ،  ولعل احمد حسين بذكائه ، او بخبته - كان واعيا بهذه الرغبة الدفينه في اعماق هذا الرجل العظيم .. ولعل هذا الوعي وراء هذا الدور الذي لعبه في افساد هذه العلاقة الحميمة بين مكرم والنحاس يقول علاء الحديدي في كتابه عن “ مصطفي النحاس” : “ .. وكان العامل الحاسم في الخلاف بين مكرم والنحاس الدور الذي لعبه القصر ، خاصة احمد حسنين ، الذي وضع خطة وقع مكرم فريسة لها “ ولعل مؤامرة القصر - بقيادة المايسترو الذكي احمد حسنين - تبدا في يوم 12 مارس 1942 عندما “ دعا حسنين مكرم - كما يقول مصطفي الفقي - لمقابلة الملك وكان السبب الظاهري لذلك هو استشارته في مسائل اقتصادية ، ولكنها كانت مكيدة من حسنين لا يقاع الشقاق في صفوف الوفد :” ويقول مصطفي الفقي “ ومن المحتمل ان عبيد كان قد تلقي وعدا من الملك عن طريق احمد حسنين ، انه اذا نجح في احداث انقسام واضح داخل الوفد ، وفي استقطاب مجموعة مناسبه من الاعضاء حوله ، فانه سوف يطلب منه “ تشكيل الوزارة “ كان احمد حسنين بريد بوسيلة او باخري ان يرد علي حادث 4 فبراير كان يريد الانتقام للملك - للقصر - من الوفد وكان احمد حسنين يعرف ايضا - بجانب معرفته برغبه مكرم ان يكون رئيسا للوزراء - ان علاقة مكرم بالوفد .. وبالنحاس لم تكن كما كانت من القوة والعمق .. وان صداقة مكرم والنحاص نضعف يوما بعد يوم .. يقول مصطفي الفقي عن بدايات المؤامرة لتفتيت الوفد ، ولا فساد العلاقة الحميمة بين مكرم والنحاس “ خطط علي ماهر سياسته لا سقاط حكومة النحاس عام 1937 ، وتفتيت الوفد ، بمحاولة تكوين هاله اسلامية حول فاروق في مواجهه النحاس العلماني الذي يحتوي الاقباط في اطار الوحدة الوطنية ، وقد استخدم الازهر في حملته ضد الوفد تلك السياسة باستغلال الطابع الاسلامي الذي يضفيه علي الملك الجديد ، وهو الوضع الذي صاغه علي ماهر بالاشتراك مع الشيخ المراغي .. ولعل ذلك يلقي ضوءا علي دور القصر الملكي ومستشارين في وضع الجذور الاولي للخلاف بين النحاس وعبيد التي ظهرت علي السطح عام 1942 “ .

-  وهكذا نري الدور الخطير الذي لعبه المستشاران علي ماهر واحمد حسنين في محاولة القضاء علي حزب الوفد عن طليق افساد هذه العلاقة - هذه الصداقة - بين قطبي الوفد النحاس ومكرم ، ولقد ساعدتها ظروف متعددة سياسيا او اجتماعيا في نجاح خطتهما .. في ابعاد مكرم عن الوفد .. ويقول مصطفي الفقي معلقا علي خروج مكرم او اخراجه من حزب الوفد “ ومهما يكن الامر فان انفصال عبيد - القبطي البارز - من الحزب قد غير الي حد ما من الصورة التي عرف بها الحزب منذ ايام زغلول كحزب للوحدة الوطنية ، فقد كان وجود قبطي علي مستوي القمة في زعامة الوفد رمزا له معناه ومغزاه ، وكان يعطي دائما الحزب شخصية متميزة . وقد كان خروج عبيد من الحزب نهاية لحزب المؤسسين من الاقباط في الوفد من اولئك الذين بدأءه مع زغلول .. وكان فعلا اخيرا في المشاركة الواقعية للاقباط في الحياة السياسية “ .

-  هذه الصداقة الفريدة بين مكرم والنحاس والتي بدات في المنفي واستمرت رغم المحن والتجارب وعذابات والام الجهاد في سبيل حرية وكرامة الوطن والمواطنين .. استمرت اكثر من عشرين عاما .. كيف كانت نهاية هذه الصداقة ، يقول مصطفي الفقي في كتابة عن “ الاقباط في السياسة المصرية “ “ في مايو 1942 تم تعيين فؤاد سراج الدين وزيرا للاذاعة ، رغم اعتراض عبيد علي ذلك ، وفي اليوم التالي استقبل النحاس احمد حسين وعبيد ، كل علي حدة .... وحتي 29 يونيو 1942 اعلن النحاس - رسميا - في مجلس النواب ان عبيدا لم يعد سكرتيرا عاما للوفد ، واخيرا عقد الوفد في 6 يوليو 1942 اجتماعا طرد فيه عبيدا وراغب هنا من عضوية الحزب .. وفي 11 يوليو قررت المجموعة البرلمانية الوفدية في اجتماع لها تقديم اقتراح بطرد عبيد من عضوية مجلس النواب “ . وفي “ الكتاب الاسود “ وصف مكرم بعض الملامسات التي صاحبت خلافه مع النحاس .. ويقول مصطفي الفقي “ كتب “ الكتاب الاسود” في صورة عريضة الي الملك ، وتحتوي علي عدة فصول عن انواع مختلفة من الفساد والمحسوبية ، وقد صدرت النسخة الكاملة من “ الكتاب الاسود “ في 29 مارس 1943 في حوالي 500 صفحة وكان عنوانه الرسمي “ الكتاب الاسود “ في العهد الاسود وهكذا انتهت صداقة مكرم والنحاس هذه النهاية الماساوية...

-  يقول احمد بهاء الدين في تقديمه لكتاب “ الاقباط في السياسة المصرية “ ان مكرم عبيد في نظري ، هو احد الفرسان الذهبيين البارزين في مرحلة الجهاد الوطني في المرحلة بين ثورة 1919 وثورة 1952 كان القبطي الذي يحفظ القران ويرتله بصوت رحيم ويجسد الوحدة الوطنية ، الذي استطاع بشعبيته وكفاءته وجاذبيته وظهارته ان يكون سكرتيرا عاما للوفد والدنيامو المحرك له ما يقرب من عشرين عاما متولية .. لم ينجب سعد زغلول ابناء فقال له انه ابنه وصار من القابه السياسية “ ابن سعد “ .. وتمثل الفترة ما بين 1937 و 1942 العصر الذهبي لحياة مكرم عبيد السياسية ، فقد اصبح مكرم عبيد - منذ خروج احمد ماهر والنقراش عن الوفد سنة 1937 ، اقوي خطب في الوفد بلا منافس تقريبا ... وتعتبر شخصية عبيد تعبيرا عن الرغبة في تحقيق واقرار الوحدة الوطنية ، والسعي من اصل الاستقلال ، وهي الوحدة التي تعززت تحت زعامة زغلول ، كما كانت ايضا تعبيرا عن النضج الاجتماعي المصري في مناخ ليبرالي ديموقراطي ويقول احمد بهاء الدين عن نشاه هذه الصداقة بين مكرم والنحاس “ وقد نشات العلاقة الشخصية والسياسية بين النحاس وعبيد ، وتوطدت عن طريق مساهمتهما المشتركة في الحركة الوطنية منذ ايام زغلول ، خصوصا اثناء فترة المنفي ، عندما اصبحا صديقين جميمين حيث تمتع عبيد بمنزلة خاصة لدي سعد زغلول والنحاس “ .

-  ولقد سجل نجيب محفوظ - بعد ان سجل لقاءه مع سلامة موسي في “ السكرية “ - سجل تفاصيل هذه الماساه في نهاية “ السكرية “ - ايضا - في هذا الحوار الذي دار بين كمال احمد عبدالحوار وبين صديقة - القبطي - رياض قلدس .. واختار بوعي فني دقيق لحظات هذا الحوار قبيل الاستماع الي محاضرة عن شكسبير .. وكانه يريد ان يقول ان هذه الماساه التاريخية تستحق ان تكون موضوعا شكسبيريا يستحق التسجيل ...

-  كان هذا الحوار في قاعة ايوارت بالجامعة الأمريكية” كان رياض مغتما واجما وكان يهمس في اذن كمال بانفعال غير  خاف :

-  يفصل مكرم من الوفد ، كيف تقع هذه الخوارق ؟ ولم يكن كمال قد افاق من الخبر كذلك فهز راسه في وجوم دون أن ينبس.

-  انها كارثة قومية باكمال ، ما كان ينبغي ان تتهاوي الامور حتي هذا الحفيصن .

-  نعم ، ولكن من المسئول ؟

-  النحاس ، قد يكون مكرم عصبيا ، ولكن الفساد الذي تسرب الي الحكومة امر واقع ولا يصح السكوت عليه .

-  فقال كمال باسما .

-  دعنا من الفساد الحكومي ، ثورة مكرم ليست علي الفساد ، بقدر ما هي لضياع النفوذ فتساءل رياض في شيء من التسليم.

-  ايباع مكرم المجاهد بعاطفة زائلة ؟

-  فلم يتمالك كمال ان فمك قائلا : لقد بعت نفسك انت بهذه العاطفة الزائلة ! .. ولكن رياض قال دون ان يبتسم .

-  اجبني

-  مكرم عصبي ، شاعر ومغن ! عنده ان يكون كل شيء او لا يكون شيئا علي الاطلاق ، وجد نفوذه الماثور يتقلص فثار ثم وقف لهم وقفته في مجلس الوزراء مندرا علانية بالاستثناءات فاستحال التفاهم او التعاون ، حدث يؤسف له .

-  والنتيجة ؟

-  هناك السراي تبارك ولا شك هذا الاتفاق الجديد في الوفد ، وتتضمن مكرم في الوقت المناسب كما احتضت غيره من قبل ، وسنري من الان فصاعدا مكرم وهو يلعب دوره الجديد مع الاقليات السياسته ورجال السراي ، اما هذا واما العزلة ، لعلهم يكرهونه كما يكرهون النحاس او اكثر ، ومنهم اناس لم يكرهوا الوفد الاكراهية في مكرم ، ولكنهم سيحتضنونه ليهدموا الوفد اما عن المصير بعد ذلك فلا يمكن التنبؤء به .

-  فعبس رياض وقال :

-  صورة بشعة ، اخطا الاثنان ، النحاس ومكرم ان قلبي متشائم من هذه المعركة ثم بصوت اشعر انخفاضا :

-  سيجد الاقباط انفسهم بلا ماوي ، او ياوون الي حصن عددهم اللدود “ الملك “ وهو ماوي لن يدوم لهم طويلا ، واذا اضطهدنا الوفد كما تضطهدنا الاقليات فكيف يكون الحال .

-  فتساءل كمال متغايبا

-  لماذا تدفع بالامر خارج حدود الطبيعة ، مكرم ليس الاقباط ، والاقباط ليسوا مكرم ، انه شخص ذهب ، اما مبدا الوفد القومي فلن يذهب فهز رياض راسه في اسف سافر وقال :

-  هذا ما قد كتب في الجرائد ، اما الحقيقة فهي ما اعني ، لقد شعر الاقباط بانهم طردوا من الوفد ، وهم متلمسون الامان واخشي الا يظفروا به ابدا .

-  شعر كمال بامتعاض والم ، وبدت له لحظتذاك جماعات البشر وكانها تمثل مهزلة ساخرة ذات نهاية مفجعة ، ثم قال في صوت لا ينم عن ايمان .

-  عسي ان تكون مشكلة وهمية ، اذا نظرتم الي مكرم كرجل سياسي لا الامة القبطية.

-  هل ينظر اليه المسلمون علي هذا النحو؟!

-  هكذا انظر اليه انا !

-  فابتسمت شفتا رياض وقال :

-  اني اتساءل عن المسلمين فما دخلك انت؟

-  اليس موقفنا واحدا ، اعني انا وانت؟

-  بلي ، مع فارق بسيط ، وهو انك لست من الاقلية .

-  انها حقا - كما يقول نجيب محفوظ “ ومهزلة ساخرة ذات نهاية مفجعة “ وقد تمثلت هذه النهاية المفجعة في ان النحاس استخدم سلطانه كحاكم عسكري لا يداع مكرم السجن . كما يسجل علاء الحديدي في كتابه عن “ النحاس “ ويقول مصطفي الفقي “ وعندما اطلق سراحه من السجن في اكتوبر 1944 ، وعين وزيرا للماله في حكومة احمد ماهر ، القي عبيد خطبة رائعة في قاعة الوزارة باسلوب فيه ابتهال مخلص لله ، تحدث فيها عن الوحدة الوطنية بين المسلمين والاقباط واعاد تاكيدها ، وكان الشيخ المراعي موجودا هناك ، وعلق علي ما اتسم به خطاب عبيد من بلاغه: “ انه حديث شبيه بكلام المنصوفة “ ويقول د . علاء الحديدي في كتابه “ مصطفي النحاس “ في الفصل الرابع عن “ هبوط وانحدار الوفد 1942 - 1953 “ : “لم يكن عام 1942 عام صعود النحاس الي السلطة ، ولكن كانت هناك احداث اخري تنحدر باتجاه الوفد نحو السقوط ومن اهمها اتفاق مكرم عبيد عن الوفد بانشقاق مكرم بعد تشكيله لوزراته الخامسة مزح اخر .. كرسي قديم .. وهكذا ترك النحاس وحيدا ، ولم يعد النحاس العشرينات والثلاثينات “

-  وانتهت صداقة مكرم والنحاس .. انتهت العلاقة بين الصديقين الحميمين ، “ فلم يعد النحاس يخرج كل صباح في سيارة مكرم إلى بيت الامة ، كما كان يفعل ويعود معه في المساء “ .

-  هامش

* كم كنت اود ان اقرا كتاب د . مصطفي الفقي في ترجمته كاملة ... ولعلي اوفق في قراءة النسخة الانجليزية - اذا كانت الرسالة قد انشرت في كتاب وكم كنت اود - ان تترجم اسماء كبار الاقباط في صورتها القبطية .. مثل سيريل ( كيرلس) ومارك ( مرقس ) .. لعل القاريء العربي يطمئن اكثر الي الاسمين القبطين المالوفين - مرقس وكيرلس -