إن المشكلة الحقيقية التي تعاني منها الإدارة مصر هي أنها عادة ما تعالج العرض كلما ظهر ولكننا أبدا لا تهتم بمعالجة المرض، كما أنها في إدارة الأزمات عادة ما تركز على مرحلة ما بعد الأزمة باتخاذ إجراءات تخفيفية دون التركيز على مرحلة ما قبل حدوث الأزمات وبوادر الأزمات لاتخاذ إجراءات وقائية.
أثارت رؤيتي لصورة مرتكب حادث كاتدرائية العباسية لدي العديد من ذكريات الماضي وعلاقتي بالتشدد الديني بدأت وأنا في المرحلة الإعدادية حينما تم دعوتي لحضور الدروس الدينية في المسجد المواجه لمنزلي وكان المحاضر شابا صغيرا لازلت أتذكر كلماته التخويفية عن عقاب الله وناره وتعظيمه لحجم الآثام التي نرتكبها بفهم أو دون فهم. ثم دخولي الجامعة في كلية السياحة والفنادق وكانت من كليات القمة آنذاك يدخلها صفوة طلاب الثانوية لغة وثقافة بعد مقابلة شخصية وكنا نرتدي زيا موحدا وتصادف وجود فارق زمنى بين المحاضرات وقررت أن أدخل مسجد المجمع للصلاة وتلقفتني منذ دخولي فتاتان ترتديان الخمار وجلستا بجواري في محاولة لاستقطابي دينيا للانضمام للجماعات الإسلامية بالجامعة وكانت كلماتهما لينة ناعمة ولكنها لم تجد طريقها لدي وفررت وقررت بعدها أن أهجر مسجد الجامعة نهائيا.
وبعد ثلاثة أسابيع من دخولنا الجامعة وأثناء محاضرة مسائية في مدرج الكلية فوجئنا بحجارة تلقى على زجاج المدرج وصوت هتافات بالخارج وكان هجوما من الجماعات الإسلامية بالجامعة في مظاهرة أستهدفت كلية الكفر والأصنام وهي كلية السياحة والفنادق من وجهة نظرهم وتدخلت الشرطة لتهدئتنا بعد إصابة البعض لحمايتنا وإجلائنا وتم وقف الدراسة لمدة أسبوع بالكلية بعدها صدر قرار العميد بعدم إرتداء طلاب كلية السياحة والفنادق للزي المميز لهم حتى لا يتم إستهدافهم من الجماعات الإسلامية بالمجمع وإغلاق الباب الرئيسي للكلية وخروجنا من أبواب الكليات الأخرى فلقد أصبحنا مستهدفين كأقليات غير مرغوب بها بالمجمع
ورغم ذلك كنا نرى الجماعات متواجدة بمظهرها المتشدد المرعب ويسمح لهم بنشر فكرهم في الجامعة كما كنا نرى التظاهرات العنيفة والتدريبات الغريبة من وقت لآخر وكانت هذه الجماعات تجد صيدها الثمين في طلاب الأقاليم الذين يتميزون بالتدين الفطري والبساطة الفكرية كما كانون يعانون من بعض المشاكل النفسية المرتبطة باختلاف الطبقات والمستويات المادية والمظهر بينهم وبين غيرهم من طلاب جامعة الإسكندرية فكانوا يفرون بمشاكلهم لهذه الجماعات لينة الحديث، كما تجد هذه الجماعات ضالتها في الوافدين المقيمين بالمدن الجامعية حيث تتاح لهم الفرصة الطويلة لبث أفكارهم ومعتقداتهم المتشددة ومن هنا تنبت أشجار التشدد الفكري وتتشعب جذورها ونطالب نحن بمواجهة ثمارها.
هذا ما يحدث في المدينة فما بالكم بالقرى وكتاتيبها ومدارسها ومساجدها وجامعاتها في بيئة خصبة يعاني سكانها من الصراعات النفسية المرتبطة بالجهل والفقر والحاجة واليأس والضعف النفسي الذي قد يدفع الأفراد للارتماء في أحضان الوعود ولحديث الناعم وربما لا يصدقه البعض ولكنه لا يجد قيمة أو معنى لحياته أو حتى هوية لذاته فتهون عليه نفسه في حالة من اليأس الكامل.
إن مرتكب حادث كاتدرائية العباسية وغيره من مرتكبي العمليات الإرهابية كانوا صيدا ثمينا وأيضا ضحايا لهذه التنظيمات التي تتواجد بيننا لتحقيق أهدافا متباينة فوق جثث الضعفاء.
ولعل وقف إنتاج الإرهاب في مصر شأنه كشأن وقف العمليات الإنتاجية الاقتصادية تتطلب القضاء على عنصرين أولهما رأس المال ( تمويل الإرهاب) وثانيهما العنصر البشري ولعل الأولى ليست محل اهتمامنا هنا أما الثانية فلابد أن تبدأ بمنع هذه الجماعات المتشددة من الوصول لأهدافها والسيطرة عليها وتحسين أوضاع الفئات الضعيفة المهشمة وتشجيعها على الاستثمار في المشروعات الصغيرة ومتنامية الصغر حتى لا تكن صيدا ثمينا للجماعات المتشددة فكريا...حفظ الله مصر وحفظ أبنائها