هدى حجاجى تكتب: سيف يشتهى قلبك

هدى حجاجى تكتب: سيف يشتهى قلبك
هدى حجاجى تكتب: سيف يشتهى قلبك

 عبيد رجل متعدد الامكانيات لكنه بسيط، لا يفكر كثيرا. ينفذ ما يؤمر به! يقف على مشارف العقد السادس من عمره. استدعاه سيده فلبى النداء بسرعة البرق، وهاهو يمتثل أمامه فى خشوع وأدب، ينكس رأسه المشتعل شيبا يجلس أمامه السيد العملاق بوجهه الأحمر، ورأسه الضخم الذي ينافسه كرش يتقدم كتلة عضلية.

 يرسل إليه نظرة مباشرة قوية نفاذة، يعرف عبيد تمام المعرفة أن وراء هذه النظرة ما وراءها، فازداد ارتباكه وتندى جبينه بحبات العرق اللؤلؤية، بينما ترتعد فرائصه، ويهمس لنفسه: يالطيف.. يالطيف.

بأي وجه استبشر اليوم؟ اختصر السيد الصمت وقال في صوت جهوري: عبيد.. هل تعرف خطورة ما فعلت؟ أم زلت تعبث عند زوجتك الجديدة؟ أما تستحي على وجهك؟ هل خلت البلد من النساء فتتزوج أرملة شم عطرها كل جواب آفاق؟ هل جننت يا عبيد؟

ـ سيدي هل حدث منها أي شئ؟ كرر السيد قضبته وضرب بها على مكتبه وقال: لا أسمح لك بطرح الأسئلة، وما كنت أنتظر حتى يحدث أي شئ لكن الناس غاية لا تدرك. الناس يا عبيد تملك الألسنة، وتتكلم في الخفاء وأنت تعرف ماذا يفعلون في الليل غير النوم، وأشار الرجل بسبابته الى وجهه..عبيد: ألم تفكر في مركزك المرموق؟ أنت في موقع ويحسدك عليه الكبار، فكيف هانت عليك نفسك؟ لا تكلمني عن الإغراء، فهذه لهجة الكلاب وهم يلهثون وراء عظمة. قال عبيد في ضعف: لكن سيدي.. زواجي منها غير معلن ـ زواج عرفي لم يعلم به أحد إلا أربعة أشخاص حضرتك تعرفهم، وأعيش معها في فيللا تبتعد أكثر من خمسين كيلوعن المدينة. ـ الحيطان لها آذان يا عبيد، وأنك تذهب إليها كل يوم مثل مجنون يرى اللحم لأول مرة في حياته. قال عبيد في استسلام: أنا تحت أمرك.

 ـ اترك هذه المرأة فورا، أو نفذ فيها حكم الإعدام. صاح عبيد بجزع ..لا؛ أرجوك يا سيدي فهي شابة صغيرة جميلة. وتذكر عبيد كيف التقاها، وكيف أثرت نفسه شجونها، وكاد يبكي حين علم بقصتها، وأنها ابنة رجل شهم مات دفاعا عن المدينة، لكن الغزاة هجموا بكل شراسة وذبحوه أمام زوجته وطفلته، فصاحت المرأة تهتف بحياة المدينة وبعظمة زوجها، فعالجوها بسكين حاد.. قطعوا لسانها ومزقوها إربا إربا أمام الجميع. أما الطفلة فحلقوا لها شعرها وحاجبيها، وختموا عليها بعلامة مميزة في كتفها.. صارت من العبيد وما أكثر العبيد اليوم. حين كانت تمشي في الشوارع يخاف منها الصبية لبشاعة منظرها فتبكى، ثم كبرت وطال شعرها وطال انكسارها وهي تخدم الغزاة، لكنها لم تنس ما حدث وحين تعرف عليها عبيد قالت له: أنت رجل طيب، ولكنك ضعيف مثلي. أنت مجرد منفذ لأوامر سيدك سامحني لخشونة ما أقول. تطلب مني الزواج، فهل تحميني من الناس؟ قالها لي وهو يذوب عشقا.. أفديك بروحي يا أعز الناس، ولكن ليكن زواجنا سرا حتى أرتب أموري.. سوف أتقاعد عن العمل وأتفرغ لخدمتك أنت. بكت ولكنها في النهاية وافقت، وها هو يقف في الإختيار وعليه أن يجتاز المغازة أو المهلكة. سمع صوت السيد الآمر: لماذا تتردد فيما نأمرك به؟ هذه علامة انحلال؟ ـ حاضر. ـ لا تردد. ـ ولكن.. ـ بدون لكن أو تعليق أو تسويف. ـ أقصد أن اقول.. إنها على وشك الولادة. ـ قال السيد بالصوت الجهوري: هذا يجعلني أتعجل الأمر أكثر.. ويمكن للولد أن يحمل أي اسم.. نزوجها لأي إنسان تثق فيه بتاريخ قديم..هذا لأنك تحبها، وأضاف في سخرية: تحبها يا شايب يا عايب، وهي كالأرنبة سريعة الإنجاب.. ثم ضحك ضحكة خشنة وأشار بيده حركة استهزاء. قال عبيد هامسا: لكنه ولدي أنا، وهي أم شريفة.

 ـ ومن أين تعلم يا فالح؟ أسقط في يد عبيد. هل يبث السيد عيونه عليها؟ هل المرأة لعوب تعبث من وراء ظهره؟ لا لا إنها بنت أكابر وتحبه، وقد ضحت من أجله وقبلت أن تعيش في الصحراء في عزلة تامة.

لماذا يقسو عليه سيده كل هذه القسوة؟ إنه يتذكر سنوات العبودية لكن هذه أول مرة يشعر بالإهانة الحقيقية.

يكفي أنه لا يستطيع حماية زوجته.. حماية امرأة وثقت به. أم ولده تلك المسكينة حبيسة الصحراء حبيبة الفؤاد وقرة العين.

أي قرار يتخذ؟ الحياة لا قيمة لها كأن السيد ينظر إليه ويعرف تماما كل ما يجول بخاطره.

عبيد أحذرك من المرواغة. أراد عبيد فتح ثغرة. عفوا سيدي ما كنت لأناقش معك أمرا حتى لو طلبت رقبتي، ولكن هل حدث شئ معين؟ جو الغرفة يزداد برودة.. علامات الإستفهام تسبح أمام عبيد.

 الغموض يلف النافذة والطاولة والستائر، وصوت السيد فيه من النذير ما يجعله يفقد السيطرة على نفسه.

صورة المرأة الجميلة محفورة في فؤاده بالأمس وهي تبكي الوحدة والعزلة عن الناس.

يتذكر كلماتها: البعد عن الناس جحيم، والإلتصاق بهم جحيم، وسألته مرة ومرات لماذا لا يعلن حبه لها ويشهر زواجه منها لاسيما وهي حامل في الشهر التاسع؟ لماذا لا تكون مثل أي سيدة.. مثل أي فلاحة! إن العجائز من أهل القرية المجاورة ينظرون إليها باحترام ويتذكرون والديها.

كانت تبكي وتقول له: عبيد متى تصبح بشرا؟ أجابها بكلمات غامضة؛ غدا يأتي الفرج.. لا تستعجلي الأمور.

يتذكر حين أخبرته نبأ الحمل طار فرحا، فهذا فوق ما يتمنى، وراح قلبه يسبح في نشوة عجيبة، فذهب واشترى لها سوارا ذهبيا، وعقدا من الماس، وقرطا وخاتما من أغلى المجوهرات وأكثرها دقة وصنعا، وقدم لها علبة مليئة بالكنوز.

 أريد للولد أن يعيش حياته العادية بين أم وأب وإخوة وأخوات وأسرة لها علاقات في وضح النهار.

 ـ غير ممكن الأن. ـ لماذا؟ وهذا أبسط حقوق البشر! ـ الظروف لها قوة أكبر منا.

 ـ تعنى (أنه) يمنعنا من حياتنا العادية.. هذا غير معقول وغير مقبول!

ـ همست إذن نهاجر.. الدنيا واسعة؛ لنعش حياتنا. ـ قال عبيد بضجر.. تذهبين بي وبنفسك إلى الهلاك. اصمتي من أجل هذا، وأشار إلى حملها في بطنها وتلفت حوله يخشى العيون والآذان في الحيطان، لا داعي للثرثرة مع نفسه.. السيد يقرأ كل ما يجول بخاطره، الجير يسد الحلق يشعر بتوقف الزمن وأن الظلام يشتد من حوله حتى الشمس لا ترسل إلا سوادا، وأن روحه تتلاشى من عملاقين أحدهما حلة كاملة من اللون الأسود، والثاني يرتدي ثوبا أبيض أنظف من الحليب.

وأشار السيد.. عبيد انقضا عليه؛ وجد نفسه مقيدا بينهما لا يعرف كيف يفلت منهما. كان يمكن للسيد أن يأمرهما بموته منذ زمن بعيد، ولكنه يفضل اللعبة أن تستمر إلى حين، أو لعله الحب العنيف على طريقة القط والفأر. دخل إلى الغرفة عملاق ثالث في ملابس زرقاء داكنة الزرقة. وكان معه آلة حديدية توضع حول الرقبة، إذا ضغط عليها حولت الرقبة إلى عشرات القطع مثلما تنكسر البندق بين فكي الكسارة، ومضافا إلى الطوق الصلب الذي يوضع في الرقبة؛ مسمار يبرز إلى الداخل في اتجاه الحنجرة، ويتوغل كلما ضيق العملاق الأزرق دائرة الخناق.. وفي لحظات كان عبيد مثل العصفور الصغير في الآلة الجهنمية، وكلما ضغط العملاق الأزرق على رقبة عبيد؛ كلما تلاشى وجود العملاقين الأسود والأبيض، وانسال الدم من رقبته أحمر قان حتى ارتعش عبيد ارتعاشته الأخيرة. كان العملاق الأزرق يعمل في هدوء وسعادة واحتراف، بينما السيد ينظر في ابتهاج حقيقي لعملية الموت. وباختفاء الروح من جسم عبيد، اختفى العملاق الأزرق أيضا ثم ضغط السيد على زر فجاء بعض الخدم. فقال لهم في صوت آمر هيا احملوه ونظفوا المكان منه ومن قذارته.. أرموه في الركن المنسي وابتسم في بهجة وقال لهم؛ لا بأس بعد ذلك أن تشيدوا له جنازة محترمة، فقد كان أفضل رجالنا. ساد المكان ذعر وكآبة، صاح فيهم آمرا يحرك سكونهم ـ هيا هيا يا أوغاد.. اعملوا فلستم أحرار في التوقف !