صلاح هاشم يكتب: لماذا لا يمــوت الخـونـــة؟!

صلاح هاشم يكتب: لماذا لا يمــوت الخـونـــة؟!
صلاح هاشم يكتب: لماذا لا يمــوت الخـونـــة؟!

في زيارتى الأخيرة إلى مدينةالدار البيضاءسجلت بعض الملاحظات المتعلقة بـظاهرةالمقاهىالتي باتت تجتاح الشوارع المصرية، ولا تفرق بين ريف وحضر، سواء من حيث كثافة عددها أو من حيث كثافة أعداد روادها، أو من حيث طبيعة التركيبة العمرية لهم.

والغريب أن تزايد أعدادها تزامن مع تزايد أعداد الصيدليات.. والأكثر غُربة أنه رغم وجود قانون يحدد المسافة التي يجب أن تفصل بين الصيدليات والتي تقريبا 100م2.. إلا أنه لا يوجد قانون يحدد المسافة التي تفصل بين المقاهى!

وأسفرت ملاحظاتى عن أن المقاهى في كازا بلانكا تقع على مسافات جغرافية بعيدة جدًا، ربما لا تقل عن كيلو متر مربع.. فتقريبا يوجد مقهى واحد على الأكثر في كل شارع. ثانيًا أن المقاهى لها أبواب ضيقة كالشقق السكنية عندنا، دائمًامغلقةولا يوجد لها امتداد للرصيف ولا تطغى على مساحة الشارع، ولا يُسمَح حتى بوضع كرسى أمام الباب.. ثالثًا أنها غير مزدحمة ومعظم روادها ليسوا مغاربة.. رابعًا يُمنعُ فيها نهائيًا تقديمالشيشةأو الأرجيلة كما يسمونها هناك.. وإن وجدت فلا توجد أنواع المعسل المدمرة التي تنتشر في مقاهينا كـالقص والسلوموما شابَه.. فالمقاهى في المغرب لا تختلف كثيرا عن الأندية الاجتماعية لدينا، ولا تتخذالشيشةعنوانا للمقهى كما في مصر.. ولا يسمح لها أن تتزين لتغرى عملاءها كما هنا!

وحين سألت سائق التاكسى لماذا لا تقدم الشيشة في مقاهيكم؟ أجابنى بأنها تقدم.. ولكنها تقدمخيانة”.. بمعنى أن صاحب المقهى حين يقدمها فإنه يعدُ خائنًا للقانون! فعرفت حينها أن للخيانة معاني جديدة.. وتساءلت في نفسى إذا كان التدخين يقتل شخصا كل 13 ثانية، وإذا كانت الخسائر في الأرواح حول العالم بسبب التدخين تتجاوز 2.5 مليون نسمة سنويًا، وأنه يتسبب في وفاة أكثر من 600 ألف شخص سنويًا.. وأنه إذا كان التدخين يتسبب في مقتل نصف من يتعاطونه، وإذا كان استهلاك البشرية من الدخان قد تجاوز ما قيمته 100 مليار دولار سنويًا.. وإذا كان من يصنع الدخان -حسب المفهوم المغربى- خائن. ومن يتاجر فيهخائنومن يقدمه للمواطنينخائن”.. فلماذا لا يموت الخونة؟!

وإذا كان بيعالشيشةأو السماح ببيعها يعد خيانةللصحةفإن بيوت الدعارة وإنتاج الأفلام الإباحية أو تطعيم الأفلام الدرامية بمشاهد إباحية، أو استخداملغة الجنسفي الإعلانات والوسائل الدعائية، تعد كلهاخيانة للعرضوالشرف، ومن ثم انهيارالقيمالإنسانية الرصينة.. ولك أن تتخيل مستقبل بلد دون صحة أو قيم!

ومن ثم فإن للخيانة هنا مفهومًا مغايرًا تمامًا عن الذي كنت أحمله في ذهنى.. ففى حين يختزل البعض خيانة الوطن فيالجاسوسية، أعتقد أن خيانة الوطن أبعد من ذلك بكثير.. فيكفى أن يكون الشخص سببًا في خطوة يخطوها العدو في أرض وطنه حتى يصبحخائن”.. ليس ذلك فحسب بل يصبح خائنًا حين يقدم مصلحته الخاصة على مصلحة الوطن.. ويُوصَم المجتمع بأنهبئرٌ للخيانةحين يردد أفراده دون وعىأنا ومِن بعدى الطوفان”!

فجميعنا لا ينسى الأبواق الإعلامية والأقلام الصحفية التي وقفت موقفًا معاديًا لـثورة 30 يونيووطالبت الدول الأجنبية بفرض حصار اقتصادي على مصر؛ بغية إرغام الجيش على إستعادة نظام الإخوان البائد.. متخذين منالديمقراطيةالمزيفة شعارات لهم، يستنهضون بها عزائم الغرب المتأججة ضد مصر!

ولا يفوتنى هنا الحديث عنخيانة الدموالتي تجسدت في أولئك الذين شكلواجماعات عصابيةاستحلت لنفسها النيل من دماء الأبرياء من المواطنين العُزَّل ورجال الشرطة والجيش البواسل. لا لشيء سوى الدفاع عن نظامٍ إرهابيٍ متشددٍ، اجتمعت إرادةُ الشعبِ على عزله، وإنقاذ المجتمع من مخططاته الفاسدة!

وأشد أنواع الخيانة هيخيانة الوعىوالتي لا تختلف كثيرًا عن خيانة الضمير.. فجميع البرامج والقنوات الفضائية التي تُزَوِّرُ الحقائق ولا تلتزم بالشفافية وتساهم بعَمدٍ -أو بغير- في تسطيح وعى الجماهير، جميعها تمثلخيانة للوطنإذ تتسبب هذه البرامج المُسَطَحَةِ في خلقِ جيلٍ هشٍ، غير قادرٍ على التعاطى مع معطيات واقعه وأزماته!

الخيانة في تصورى تحدث هي أن نتاجر بقضايا الوطن وأزماته، ونصنع من أنفسنا حراسًا وهميين على الوطن أو بالأدق أبطالًا من ورق! فلم تكن البطولة يومًا تُقاسُ بالشعارت في الميادين العامة، ولا باستعراض الحناجر والصياح على الفضائيات.. وإنما تصبحُ بطلًا حين تسهمُ في إحياء نفسٍ وليس في قتلها.. وحين تسهر على ماكينة الإنتاج عاملًا منتجًا، ويسهر غيرك على المقاهي.. فالخاينة في تصورى ليست وجهة نظر!

ولا يفوتنى في هذا المقال أن أشير إلىخيانة العلمولا أقصد بذلك فقطالأستاذالذي اعتقل عقول طلابه في سجن أفكار الفاسدة، وبث في نفوسهم روح الإحباط والتشاؤم.. وإنما أقصد أيضًا الباحثين الذين يُصَدِّرونَ للدولة أفكارًا هَزلية.. كالباحث الذي ادعى أنه اخترع دواءً يعالج كل أنواع السرطان، ضاربًا عرض الحائط بالثوابت العلمية، التي تؤكد أن للسرطان أنواعًا وأسبابًا كثيرة. ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتقبل العقل أندواءً واحدًامكنه أن يعالج كل أنواع السرطان! ولا يختلف هذا العالِم كثيرًا عن ذلك الذي ادعى اكتشاف جهازٍ يعالج الفيروسات الكبدية بـالكفتة”!

ولا تقفخيانة الوعىعند هذا الحد؛ فهناكخيانة المنطقفبالرغم من أن المصريين لا يستغلون من مساحة مصر سوى 6% فقط.. ورغم كثرة مواردنا المائية، كنهر النيل والأمطار الشتوية والمياه الجوفية فضلًا عن إمكانية تحليّة مياه البحر، وإعادة تدوير مياه الصرف الزراعى، ورغم صحارينا الواسعة، هناك علماء يدعون الدولة إلى الدخول في وَهم تحويل أسطح المنازل إلىضَيعَاتٍ فِلاحِيّةٍ، يغرس فيها السكان ما يحتاجونه من خُضَرٍ. ويطرحون أفكارًا أقرب إلى الخيال، تستغبي عقول البسطاء والمثقفين على حدٍ سواء، أفكارٌ لا تُخفي بداخلها سوى جهل أصاحبها، وخيانتهم للواقع الذي نعيشه، وللعِلمِ الذي يحمِلُونه!

لقد اكتفيت في هذا المقال بتلك الأنماط التي تهدد حاضرنا فتجعله مؤلمًا، وتهدد مستقبلنا فتجعله معتمًا.. إذ تُخبرنا الخيانة دائمًا بأنها الأخطر على الوطن من العدو.. وأنها تبدأ من الفكر وتنتهى إليه.. وتستهدف في معظم حالاتهاالوعىوتجعلنا نتساءل دائمًا في صمت.. “إذا كانت الخيانة هي السبب في فساد أفكارنا.. فلماذا لا يموت الخونة؟!”.