أبو المعاطى أبو شارب يكتب: المهاجر بين العولمة والعلمنة

أبو المعاطى أبو شارب يكتب: المهاجر بين العولمة والعلمنة
أبو المعاطى أبو شارب يكتب: المهاجر بين العولمة والعلمنة

المهاجر في إيطاليا لديه أسباب كثيرة لكي يصبح أديبا، لأن هناك دوافع كثيرة في المجتمع الإيطالي تدفعه للرغبة في التعبير عن نفسه، فهناك سهولة شديدة للمهاجر في الاندماج مع المجتمع الإيطالي، نظرا للتقارب الثقافي بين الشخصية المصرية والشخصية الإيطالية.

وتؤدي سهولة الإندماج إلى الاستفادة التامة من ثلاثة عناصر أساسية تؤدي إلى الانفتاح العقلي على الثقافة الجديدة، وهذه العناصر الثلاثة هي التي حددها العالم الإيطالي الشهير، الذي تخصص في دراسة أدب المهجر في إيطاليا، بما في ذلك الإنتاج الأدبي العربي، وهو أرماندو نيشي. يقول نيشي في أحدث كتابه الصادرة عام 2018 والتي عرضت في معرض روما الدولي للكتاب، إن هذه العناصر هي: الأدب والسينما والموسيقى.

ويفرق العالم والفليسوف أرماندو نيشي بين مصطلحين أساسيين، هما العولمة، بأبعادها التجارية الاقتصادية التي تستهدف السيطرة على العالم، والعلمنة بمعنى الانفتاح العقلي على العالم، وأن نصبح من الناحية الإنسانية "مواطن عالمي"، أي لا ينتمي إلى ثقافة محلية منغلقة بطبيعتها، وإنما على الثقافة الإنسانية بمعناها الواسع.

ولا أبالغ إذا قلت إننا نعيش في عصر النزعة الإنسانية الجديدة بفضل ظاهر الهجرة، فهي تعيد اكتشاف الإنسان بأبعاده الشاملة، وتهدم الحواجز الجغرافية الاصطناعية، وتعيد الحركة الإنسانية إلى مجالها الخصب، وهو مجال التبادل الثقافي الحر الذي يصاحب الهجرات الأولية التي أدت على مر القرون إلى نشوء لغات وثقافات جديدة شكلت معا تاريخا للإنسانية ومنتجها الثقافي.

ونستطيع أن نلمح سمات أساسية في أدب المهاجرين المصريين في إيطاليا، فهناك شعور دائم بالغربة، يترجمه الأدباء المصريون المهاجرون مباشرة وخاصة من شعراء المهجر، أو بطريق غير مباشر، عن طريق الرواية التي تحكي دائما عن الحياة الجديدة التي يعيشها الأديب المهاجر بكل عناصرها الاجتماعية والاقتصادية وربما السياسية أيضا. وهنا لابد أن أشير إلى أن اندماج المهاجر في بلاد المهجر الجديدة عليه لا ينسيه وطنه الأصلي، بل وربما أصبح إحساسه بالوطن ومشاكله أكثر تكثيفا، ويتيح له الوجود عن بعد رؤية الصورة كاملة دون رتوش، بالإضافة إلى رغبته الدائمة في نقل الخبرات الحضارية الإيجابية إلى وطنه.

ومن السمات الأخرى أن الأديب المهاجر يكتب لقارئ افتراضي مزدوج، فهو يكتب إلى بني وطنه في الأساس، وفي الوقت نفسه يوجه خطابه إلى أبناء الثقافة الأخرى المهاجر إليها، مع ما يحتاجه هذا المنهج إلى شرح وتبسيط، وبالتالي اللجوء إلى أسلوب لغوي خاص، يتخلص فيه من التابوهات اللغوية الخاصة بأدبه المحلي، ويستفيد في الوقت نفسه من المنجز الأسلوبي لأدباء مهجره.

في عام 2013 بشرنا علماء الديموغرافيا بأنه مع نهاية القرن الحالي سوف تكون أغلبية سكان أوروبا الاتحاد الأوروبي من المولدين، أي المهجنين بعناصر غير أوروبية. الشاعر الإنكليزي العظيم ديريك والكوت، الحائز على جائزة نوبل والمنحدر من أصلين زنجي وهولندي، والمولود في جزيرة سانت لوسيا بمنطقة البحر الكاريبي، كتب في عام 2000 أن القرن الحادي والعشرين من شأنه أن يصبح قرن المهاجرين وفي أوروبا تحديدا يقود الدارسون نوعا جديدا من ا لدراسات الثقافية ينطلق من أفكار إدوارد سعيد، سواء على مستوى الأدب المقارن، أي دراسات ما بعد الاستعمار، وينتهي إلى الثقافة العابرة للحدود مع أرماندو نيشي، وينتهي كل ذلك إلى توقع طفرة بشرية بدأت بصمت ولكنها تتطور سريعا ولابد علينا من مواجهتها: كيف نربي عقولنا على الهوية الجديدة للمواطنة العالمية، وكيف نواجه الهيمنة العولمية، وكيف نعمل إيجابيا على الاستفادة من أدب المهجر الجديد كما فعلنا أسلافنا في مدرسة المهجر التقليدية التي نشأت في بدايات القرن العشرين ومن أبرز روادها جبران وميخائيل نعيمة.

أعود فأشير إلى أدب المهجر باعتباره إيو-توبيا، وهو مصطلح مختلف عن اليوتوبيا المعروفة باسم المدينة الفاضلة. ومعنى المصطلح هو "المكان الذي نعيش فيه معا".

الإيوتوبيا إذًا هي المكان الصحيح الذي نعيش فيه عيشة طيبة معا، أما اليوتوبيا فهي المدينة الفاضلة التي لا توجد إلا في خيال الكتاب والشعراء والمثاليين. ومنطق الإيوتوبيا يفكر ويستفهم عن إمكانية إنشاء حضارة جديدة، سلمية، تشاركية، متبادلة، مهجنة، متشابكة الأصول، حضارة للكثرة وللجميع. ويبدو لي هذا المسار الذي يجمع المهاجرين والأوروبيين المخلطين، ليس له مكان في فلسفة الاتحاد الأوروبي الحالية، والتي تمت صياغتها على أسس قوانين الأسواق، والتي ترفض المهاجرين إلى حد الكراهية. 

من المؤكد أن المهاجرين إلى أوروبا في هذين القرنين ليس في أذهانهم شيء من هذه الخطة القوية والمعقدة، والتي قد تصبح ظاهرة وشفافة إذا ما أخذنا في الاعتبار المفهوم القوي للأمل، والذي هو "الحمولة" التي أتوا بها على ظهورهم.

والأمل هو نفسه الفكرة المترسخة في مفهوم الغربة التي عالجها أدباء المهجر، فالحنين إلى الوطن مثلا هو أمل المهاجر الدائم في أن تنجح مهمته التي هاجر من أجلها، وأن يعود إلى وطنه عزيزا كريما.

تبقى نقاط الضعف في أدب الهجرة اليوم، وهي تتجسد على صورتين: فأما الأولى فهي أنهم ليسوا هم الضعفاء في حد ذاتهم، وإنما هناك تحجر فهمهم وأننا غير مهيأين للإنصات لثقافات خلف حدود ثقافاتنا، وللتغيير. الشكل الثاني للضعف يتعلق بالسخط وعدم قبول تعريف "الكتاب المهاجرين"، من جانب الكتاب أنفسهم لأن هذه التسمية، في رأيهم، تعاقبهم بالانعزال الحقيقي، تضعهم في "جيتو" اخترعه النقاد التقليديون. هذه الصيغة تمنع، في الواقع، تقييم عمل المهاجرين بوصفهم " كتابا فقط"، كصفة مانعة جازمة. يتعلق الأمر بحق "جمالي". وأنا أختلف معهم في هذه النقطة. فظاهرة "أدب المهاجرين" في إيطاليا-وفي أوروبا-ينظر إليها بإعجاب واهتمام، من القراء والنقاد ذوي الرؤية الثاقبة.

  وأخيرا أطرح أحدث المفاهيم الثقافية التي تتعلق بأدب الهجرة في إيطاليا، وهو مفهوم "تجاوز الحدود الثقافية" وله ثلاث خطوات:

•     التخلص من النزعة الاستعمارية

•     التهجين الثقافي،

•     إضفاء الطابع العالمي.

  الكاتبات المهاجرات والكتاب المهاجرون جاءوا وهم يحملون مشروعا وفكرا نقديا، كممثلين للغة المزدوجة لعصرنا.  والكاتبات المهاجرات والكتاب المهاجرون هم بالفعل شهود وحاملو الفكرة الخاصة بالتعايش في الفكرة والصورة والجمال ولطرح فكرة التفاعل الثقافي الدافع للتطور.  ليس فيهم حقد ولا غضب، أو أسباب للانتقام، ولكن لديهم بالتأكيد مفهوما نقديا يطوورنه. 

وأنقل عن أرماندو نيشي هذا المقتطف لأختتم به كلامي:

"في عام 1938 كتب برتولد بريخت قصيدة بعنوان "إلى القادمين بعدنا" يطلب فيها منا (باعتبارنا القادمين بعده) الغفران لجيله لأنهم كانوا عاجزين عن بناء عالم، لهم ولنا، قوامه "اللطف".  وأنا، في القرن الحادي والعشرين، لا أواد أن أطلب الصفح من الأجيال القادمة عن خطايا أسلافنا وخطايانا، الآن وهنا". 

وكلما مر الوقت أصبحت هذه المهمة أكثر صعوبة بالنسبة لي.  فقد ولدت في مدينة الإسماعيلية عام 1952...؟