إدوارد فيلبس جرجس يكتب: العذراء "مريم" في وجدان المصريين

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: العذراء "مريم" في وجدان المصريين
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: العذراء "مريم" في وجدان المصريين

كتبت قبل ذلك " مجد القيامة " بمناسبة عيد القيامة المجيد ، وقلت أن كلماتي في هذا الموضوع ليست تحت بند العظات الدينية ، لكن أكتب من أجل إبراز قيمة هذه المناسبة التي تعتبر البند الرئيسي في العقيدة المسيحية ، ولأننا أيضا من المفروض أن يكون لأقلامنا كلماتها فيما يتعلق بنا كمجتمع نؤمن بالله ، وأن قلم الكاتب لا يجب أن يقتصر على نوعية واحدة من الموضوعات ، فلا يوجد موضوع بذاته يستحق أن يستعمر قلم الكاتب ، لا السياسة ، ولا الاقتصاد ، ولا الاجتماعيات ، فكلها مواضيع قد لا تجد من يلتفت إليها من أغلبية المجتمع ، بعكس المواضيع التي نبخل عن الكتابة فيها من مناسبات دينية كبرى.

 وها أنا أعود اليوم ثانية وبمناسبة شهر أغسطس الذي يحتفل فيه المسيحيون جميعا عبر العالم بعيد السيدة العذراء لما له من دالة وفي صلب العقيدة ، ومن الجميل أن الكثير من الإخوة المسلمين يحتفلون بهذه المناسبة التي يطلقون عليها " مولد السيدة العذراء " ، فالسيدة العذراء أحتلت أيضا مكانتها في القرآن الكريم مكرمة تكريما عظيماً ، بل أنا لا أغالط الحق إذا قلت أن البعض من المسلمين يصومون صوم السيدة العذراء تبركاً بها .

عندما أفكر في السيدة العذراء ودورها في العقيدة المسيحية أفكر فيها كفلسفة إلهية في تكييف العقيدة بهذه الصورة ، فلسفة تحتاج إلى التوقف أمامها كثيرا لفهم معناها ومغزاها والمقصود منها ، فلسفة إعفاء الخليقة من حكم الموت الذي كُتب عليها نتيجة خطأ " آدم وحواء " . إن عين الله البعيدة الناظرة منذ الأزل وإلى أبد الدهر ، لم تنظر إلى الخليقة نظرة واحدة لتجمدها عند أي عصر من العصور ، بل امتدت عبر ألاف وألاف السنين وإلى اليوم المحدد لانتهاء العالم ورأت مليارات البشر وقد بلغوا من الرقي والتقدم مبلغا لا يتخيله عقل ، فَصَعُب عليها أن تضع الجميع في سلة الموت بخطيئة أبيهم آدم ، صعُبت عليها أن يكون مصير الخليقة منذ أن كانت تمتطي الدواب وسارت متخطية طريق طويل من التقدم حتى وصلت إلى الصواريخ العابرة للقارات والصعود إلى القمر والمريخ ولا ندري إلي أين أيضاً كمستقبل لا تتوقف خطاه ، أقول صعُبت عليها أن تتحول هذه الخليقة بكل ما وصلت إليه إلى مجرد حفنة تراب لا ذكر لها بعد ذلك ، ومن هنا جاءت فلسفة الاختيار الإلهي ، اختيار عذراء نقية تحبل وتلد وهي لا زالت تحتفظ ببكوريتها ، معنى نفكر فيه كثيرا وقد لا نصل بكل اجتهادتنا سوى إلى حواشيه ، لأن الذي سيُحبل بها هو الروح القدس " روح الله " والمولود منها مساوي للآب في الجوهر ، فلسفة الاختيار لعذراء نقية منذ الجدود لتكون محفوظة بين يديه ، وهذا ما حدث بالضبط ، فلقد ولدت السيدة العذراء من أبوين قديسين ثم دخلت إلى الهيكل وهي في سن السادسة أي لم تزل طفلة ولم تخرج منه إلا في سن الثانية عشرة وهو أقصى سن يمكن السماح فيه بالوجود داخل الهيكل حسب شريعة ذلك الوقت ، فلسفة الاختيار وضعت أن يكون المستلم لها رجلاً قديساً من عشيرتها  وفي عمر يقارب عمر أبيها وقد يزيد لأن الأب والأم كانا قد انتقلا من الحياة وليس لها إخوة ذكور ،  ليكون خطيبا لها بالأسم تعيش في كنفه والأحرى أن نقول ليكون أمينا عليها ، أمين على من ستلد ابن الله . فلسفة الاختيار لعذراء نقية متواضعة لا يأخذها الكبر وتصدق ببساطة بشارة الملاك الذي جاء ليبشرها بجوهر المولود منها ولم تستنكر حديثه سوى بعبارة نقية دفاعا عن عفتها " كيف يكون لي ذلك وأنا لست متزوجة ، عذراء نقية متواضعة أسرعت بالذهاب لنسيبتها " أليصابات " الحبلي أيضاً في " يوحنا المعمدان " وكأنها أحست بأن هذا المولود هو القادم ليفسح الطريق أمام مولودها ، فلسفة الاختيار الإلهي لخطيبها الذي لم يشأ أن يفضحها حتى قبل أن يأتيه ملاك الرب ليطمأنه أن المولود من العذراء أسمه قدوس لأنه ليس من ذرع بشر ، ويكون رفيقا أمينا عليها يرعاها كأب حنون في كل خطواتها ، منذ ولادة الطفل والتي كانت كلها محفوفة بالمخاطر والصعوبات .

الفلسفة الإلهية كانت قد أعدت كل شئ ووضعته أمام نظرها منذ الأزل ، ما كان وما سيكون من البداية إلى النهاية ، بداية الخليقة وحتى نهايتها . الفلسفة الإلهية اختارت خطوات السيدة العذراء منذ البداية ، وأن تتم ولادتها داخل مذود بقر ،  فلسفة إلهية في أن يأتي الطفل ويعيش أول أيامه بين الأبقار والأغنام ، فلسفة ستظهر فيما بعد فيما يريد الله أن يوصله للبشر عن طريق ابنه الذي كان يمكن أن يولد فوق سرير من الذهب ومرصعا بالياقوت ، هذه هي مكانته الحقيقية ، لكن الدرس الذي أراد الله أن ينقله إلينا لو تمت الولادة مرفهة يكون قد فقد أهميته ، فإن كانت الأم النقية وضعت الطفل المقدس في هذا المذود فمن أنتم أيها البشر ، ومن أنتم أيها الملوك والرياسات والسلاطين . إن الهدايا التي جاءت مع المجوس وقُدمت لها أراد بها أن تقول شيئا تفهمه السيدة العذراء كمولود سمائي ، العذراء النقية كانت تعلم بداخلها أن الطفل أتي لمهمة خاصة ، كانت تراقبه وتحس به ، لكنها صمتت وحتى النهاية إلى أن جاز في نفسها سيف كما أخبرها " سمعان الشيخ " ، الرجل التقي الذي عاش طويلا من أجل أن يرى تعزية إسرائيل .  إن فلسفة الاختيار الإلهي اختارت العذراء النقية التي ستتحمل مطاردة هيرودس ونيته الشريرة لقتل مولودها ، وتحملت ما أوحي به ملاك الرب لخطيبها يوسف من أجل أن يأخذ الطفل وأمه " السيدة العذراء " ويهرب إلى مصر ، لم تقاوم العذراء ولم تعارض ولم تتذمر ، بل دائما كانت تسير بمشيئة الله برضاء نفسي من المستحيل أن يوجد عند أي إمرأة أخرى في ظروفها ، فلسفة الاختيار الإلهي وجهتهم إلى طريق الهروب من وجه هيرودس الملك الشرير الذي أراد قتل الطفل ، واختارت لهم الذهاب إلى مصر ، ليكونوا بركة كبيرة لأرضها ، شعرت بها الأجيال المعاصرة لهذا الحدث العظيم ونشعر ونحس بها نحن الآن ، ونعلم جيداً أي بركة تعطيها لمصر ولشعبها في كل ظهور لها الآن والذي لا ينقطع ، فالسيدة العذراء لم تنسى أنها كانت ضيفة هي وابنها على مصر ثلاث سنوات تقريباً ، فتأتي وتظهر على قباب كنائسها لتباركها .

 إن زيارة السيد المسيح وأمه السيدة العذراء والقديس يوسف النجار إلى مصر أو ما نطلق عليه " رحلة العائلة المقدسة "  ، وإن كنا ننظر إلى هذه الرحلة على أنها كانت للهروب من وجه هيرودس ، لكنها تقدم لنا أحد دروس الحياة فى معنى القوة : فالقوة ليست هى قوة الإنسان الجسدية أو مكانته أو نفوذه ، بل هى قوة تملكه لنفسه وضبطه لذاته ، لقد تخيل "هيرودس" أنه الأقوى فسعى ليقتل "السيد المسيح" وهو لا يزال طفلاُ  بعد أن أخبره حكماء المشرق " المجوس " ، أن نجم الطفل المولود يؤكد بأنه سيكون ملكاً . خاف " هيرودس "  وارتعد وارتعب ، لأنه كان فى حقيقة الأمر ضعيفًا مهزومًا من ذاته وكبريائها ، فأحب العظمة والمُلك عما سواهما ، ففقد معالم إنسانيته ومعها أضاع قوتها! ويعبّر الكتاب عن ذٰلك بقوله: "مالك روحه خير ممن يأخذ مدينة."، إن القوة الحقيقية هى قدرة الإنسان على التمالُك وضبط النفس والذات قبل كل أي أمر وهى الطريق إلى النجاح فى الحياة .

كنوز مصرية لم تستغل

***********************

عندما نقول إن مصر لديها كنوزا من الموارد الغنية ، لكنها للأسف فى الغالب لا تتحول إلى أرصدة وأرقام تضاف إلى الدخل القومى ، فإننا نعنى بذلك غياب الرؤية الواضحة والتخطيط السليم المبنى على معلومات وافية ، والقادرعلى توظيف الطاقات والإمكانات المتاحة لتحقيق نتائج مرضية ،  وحتى لا نغرق فى العموميات أو الكلام الإنشائي ، دعونا نتناول ملفاً واحداً يمكن أن يحقق طفرة كبيرة فى صناعة السياحة المصرية ، وهو ملف رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، بعد أن اعتمده الفاتيكان وأصبح على خريطة المسيحيين من كل دول العالم .

ففى يناير الماضى أدرجت بالفعل مؤسسة «أوبرا رومانا» المسؤولة عن ملف السياحة الدينية بالفاتيكان ، مسار رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، فى الكتالوج الخاص بالفاتيكان  ، وشمل الكتالوج برنامجين لمصر أحدهما يشمل الأماكن التى مرت بها السيدة العذراء والسيد المسيح له المجد ، والآخر زيارة المناطق الأثرية التاريخية من أسوان للقاهرة ، وتصل مدة الرحلة إلى ثمانية أيام ، وإذا كنا نعلم أن المسيحية هى كبرى الديانات فى العالم ويعتنقها نحو ملياري نسمة من بينهم ما يزيد عن مليار نسمة يتبعون المذهب الكاثوليكى وبابا الفاتيكان وهؤلاء شغوفون بأداء طقوس روما ، والمناسك التي يقرها البابا ويلبونها بترحاب شديد ، وجب علينا أن نسأل أنفسنا مجوعة من الأسئلة السهلة البسيطة :

أولاً :  ماذا فعلنا في ملف تحديد مسار العائلة  المقدسة ونقاطه الرئيسية ؟!،  فإذا كان المسار يبدأ من العريش فى سيناء ويصل إلى الفرما القديمة أو بورسعيد ومنها إلى بلبيس فى الشرقية وحصن بابليون فى مصر القديمة وسخا بمحافظة القليوبية ومنها إلى جبل درنكة بأسيوط عبر وادى النطرون، والعودة من القوصية إلى حصن بابليون وبلبيس ثم العريش وفلسطين، فإنه بذلك يكون لدينا بالفعل مجموعة من النقاط الحية والمزارات والأديرة التى يمكن تحويل النطاق العمرانى لها إلى مناطق جذب للسياحة الدينية وتتحول إلى مناطق جذب سياحى طوال العام .

ثانياً :  هل قمنا بدراسة تقريبية للعدد الذي نستهدفه من السياح من جملة ما يزيد عن مليار كاثوليكي يؤمنون بما يقرره الفاتيكان من طقوس وشعائر ويرغب معظمهم في اتباعها ؟!

ثالثاً : هل لدينا حصر معلوماتى بعدد السواح الكاثوليك من أوروبا وكذا من أمريكا اللاتينية ومن آسيا إلخ؟ أم أن الأمر متروك للمصادفة؟! ، أقول بمنتهى التفاؤل أنه يمكننا بالفعل أن نخطط لاجتذاب مليون سائح مسيحى، كما يمكننا أن نخطط لاجتذاب خمسين مليون سائح فى العام.

لكن هذا التفاؤل يلزمه بالتأكيد أن نعرف أولاً ،  ماذا نريد بالضبط ؟ ، وأن نخطط ونسوق لمسار العائلة المقدسة فى مصر كما ينبغى بالنسبة للعالم كله ، فإذا أردنا أن يأتى إلينا خمسون مليون سائح مسيحى، فلابد وأن نضع مسارات جاذبة لهم ، وأن نستهدف إنشاء مجموعات من الفنادق المتفاوتة الأسعار والدرجات بدءاً من المعسكرات السريعة وخيام التفويج المزودة بالخدمات الأساسية وانتهاء بالفنادق خمس وسبع نجوم فى النقاط الأساسية ، وهو ما يستلزم شراكة مع القطاع الخاص ومع كنيستنا الأرثوذكسية ليتحول مسار العائلة المقدسة إلى بنية أساسية دائمة تخدم صناعة السياحة المصرية وتجعل من السياحة الدينية المسيحية موردا أساسيا من موارد الدولة، فضلا عن الطفرة التنموية والعمرانية الهائلة التى يمكن أن تتحقق فى النقاط الأساسية لمسار العائلة المقدسة .

اطرحوا الموضوع على المستثمرين ورجال الأعمال بدل من حصره فى اللجنة الوزارية المعنية بالملف التي يمكن أن يتحول الملف إلى مومياء في أدراجها ، وافتحوا الباب للأفكار الجديدة ، كأن يتولى رجال الأعمال والمستثمرون فى كل محافظة تطوير المناطق الأثرية ومحيط الأديرة إلى جانب ما يتخذ بالنسبة لمسار العائلة المقدسة وتأسيس بنية أساسية تخدم صناعة السياحة مع العمل على الترويج لها طوال العام ، فالموضوع ليس مجرد زيارة للتبريك يقوم بها السائح المسيحى، لكنها صناعة متكاملة يمكن أن يستفيد منها الملايين فى عشر محافظات من خلال إنشاء الفنادق وإقامة الأسواق والبازرات وورش الحرف التقليدية المرتبطة بالسياحة الدينية .

يا أصحاب الرؤوس المفكرة لصالح الوطن ، مسار العائلة المقدسة كنز ينبغى أن نفكر فيه على أنه واحد من المشروعات التنموية العملاقة التى تتكامل فيها طاقات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدنى لتحقيق طفرة تنموية واقتصادية ، وهذه حقيقة يجب أن نلتفت إليها بجدية ، والكلمات التي كتبتها في هذا الموضوع ليست خيالاً قصصيا ، أو كتبتها بقلم بين النعاس واليقظة أي قابلة لأن تكون فكاهة أو مادة للسخرية ، بل هي نقلة عظيمة يجب أن نضعها إلى جانب النقلات الأخرى التي تبحثها الدولة للوصول إلى القمة في جميع المجالات .

بقى أن أشكر العائلة المقدسة والسيدة العذراء التي شرفت مصر بزيارتها لأنها أضفت على بلادنا هذا الجمال الرائع في كل مكان نقف فيه ونتخيل أن السيدة العذراء كانت تخبز وتطهو وتغسل في هذا المكان من أجل طفلها ، ولعل دير المحرق بأسيوط يحكي الكثير عن رحلة العائلة المقدسة ، أنها فعلا وبالحقيقة فلسفة الاختيار الإلهي ، التي كثيراً ما تتوه عن عقولنا البشرية المحدودة .

 

**************************

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************