الشائع بيننا هو البحث فى الكيفية التى يتم بها تجديد الفكر الدينى، خاصة بعد التطورات التى جرت خلال العقود الأخيرة، وفيها جرى الانتقال من «الأصولية الدينية» المتطرفة إلى درجات مختلفة من العنف أصابت ما سمى «العدو القريب» فى بلاد العالم الإسلامى، وما سمى «العدو البعيد» فى بقية بلاد الدنيا. لم يعد فى الحقيقة هناك ما كان يسمى دار الإسلام ودار الحرب، وأصبح كل العالم ساحة معركة دامية. الموضوع ولا شك شائك ومتشعب، ولكن جانبا هاما منه ارتبط بنوعية الفكر الدينى الذى يدفع إنسانا لقتل أخيه الإنسان وحرقه والتمثيل بجسده، أو حتى يقوم بالعمليات الانتحارية التى يضيع فيها المنتحر مع ضحاياه. الجانب الأمنى هنا ليس موضوعنا، ولكن الجانب الفكرى ذهب بتركيز كبير على المؤسسات الدينية وعما إذا كانت قد قامت بواجبها أم لا فى شرح صحيح الدين المعتدل والوسطى. ومن ناحيتى فأنا من المقدرين للجهد الذى قامت به مؤسسات الأزهر والأوقاف وما زالت تقوم به فى هذا الاتجاه فى حدود ما هو معلوم من حدود وقدرات وإمكانيات وبنية مؤسسية قامت واستقرت لأكثر من ألف عام. ولكن ما يهمنى فى الموضوع هو أن التجديد لا بد وأن يكون فى الفكر مدنيا كان أو دينيا، ليس فقط لمقاومة الإرهاب، أو مواجهة ما هو متطرف وعنصرى ولا أخلاقى، وإنما لإعلاء قدرة الإنسان المصرى على التفكير فى أمور الحياة المتغيرة، والتعامل معه لتحقيق «التقدم» الذى هو بدوره قيمة كبيرة وتستحق التفكير والعمل من أجلها. «تجديد الفكر الدينى» لا يكون فقط من خلال التعامل مع الأصول الدينية، وإنما أيضا بتقديم فكر مدنى لا يكتفى فقط بنقد الفكر الدينى، أو هجاء الشعوذة الشعبية أو السلفية، أو النظر من عل لعادات أهلية متخلفة، وعندما تجرى فى إطارات مقارنه مع عالم متقدم فإنها تضعنا فى أسفل السافلين فى المقام والأخلاق العامة. مثل ذلك يمكن تقدير الشجاعة فيه، ولكنها من ناحية أخرى لا تؤدى إلى تغيير المجتمع مكتفية بتصنيفه إلى شرائح وطبقات راقية ووضيعة، متقدمة ومتخلفة، وهكذا تقسيمات.
ومن الملاحظة والتجربة لما يحدث فى بلادنا فإنه لم توجد معركة من نوعية «البوركينى والبيكينى» إلا وصبت فى قناة التقسيم المجتمعى ولصالح الجماعات الأكثر تطرفا. وبالملاحظة والتجربة فى بلاد العالم التى سبقتنا، ورغم السبق فإنه لا يزال فيها التفكير التآمرى والكثير من الشعوذة الدينية، فإن بداية التغيير لم تأتى فقط من «الإصلاح الدينى» وإنما جاءت من «العلم» و«العلوم» و«المعرفة» فى العموم. ولو أن كتابنا ومفكرينا المهتمين بهذه القضية صرفوا جزءا هاما من وقتهم، ومساحات أكبر من كتابتهم، إلى التفكير العلمى والبناء المنطقى وأساليب البحث فى الأمور، والعلاقة بين المقدمات والنتائج، والكيفية التى تطورت بها الدنيا على مدى العشرة آلاف عام الماضية التى بدأ عندها التاريخ الإنسانى شاملا أديانا وأفكارا وتقاليد وأخلاقيات كانت ضرورية لتحقيق سلام الإنسان مع ذاته، وتعاونه مع أخيه الإنسان. التاريخ هكذا ليس مجرد تسجيل صعود وهبوط الأمم، وانتصارات الإسكندر الأكبر وبطولات خالد بن الوليد وفتح الأندلس وغزوات نابليون وهتلر، وإنما هى كيف جاء الإنسان من كهفه، ورحلته من جمع الثمار حتى الوصول إلى القمر. هذا التطور منذ وقوف الإنسان على قدميه معلنا خروجه من المملكة الحيوانية وحتى بات يقترب من مركبات تسير بسرعة الضوء، وبعد أن كان يعلن «العجز» قبل سن الثلاثين وحتى بات شابا من هو فى الثمانين، هى قصة تستحق أن تروى علميا وتكنولوجيا وفلسفيا أيضا.
وبقدر ما يحكى تاريخ البشرية قصتها مع التطور والرفعة، فإن التاريخ المصرى وحده فيه أبلغ القصص ليس فقط بإقرار الوحدانية والحساب بعد الموت، وإنما فى التعامل مع الجسد الإنسانى وقوانين الجاذبية أيضا. وظيفة التاريخ للإنسان والشعوب أنه مخزن التجربة ليس خطأ أو صوابا، وإنما عما إذا كان مفيدا أو غير مفيد. وضع أحكام قيمية، وفى كثير من الأحيان ليبرالية ومستمدة من تجربة القرنين الأخيرين من التاريخ البشرى غير عادلة لوظيفة التاريخ الذى إذا ما أثقلناها بمعايير أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية لما بات التاريخ تاريخا كان فيها الإنسان أسيرا لظروف العصر والزمن والتطور. التاريخ أيضا ليس هو ما فات، وإنما ما هو قادم أيضا طالما أن العلاقة واقعة مع الزمن الذى فات، والآخر الذى سوف يأتى. هنا مربط الفرس فى تجديد الفكر المدنى أن يكون نافعا فى بناء مصر الحديثة والمعاصرة؛ وبصراحة يكون أكثر تحملا للمسؤولية عن تقدم مجتمعنا.
أخبار متعلقة :