بوابة صوت بلادى بأمريكا

ياسين العيوطي يكتب: لماذا فضلت المسجد على الكلية؟

 

انسحبت من كلية سان فرانسيس في بروكلين كي أدرس في مسجد عثمان بن عفان بمنهاتن.

بعد 25 عاماً فى الكلية، وجدت أن تلك الكلية شاخت وأصابها الشلل. بينما وجدت فى مسجد عثمان بن عفان نهضة علمية تتناسق مع مواعظه الدينية. فالإمام أحمد دويدار منفتح على العالم، بينما أصاب الأنتكاسة تلك الكلية بعد أن فقدت رئيسها وإمامها المرحوم الدكتور فرانك ماكيارولا.

كان ماكيارولا مجدداً ونوراً يهتدي به أبناء وبنات الأقليات في بروكلين، التي قصدها المهاجرون من الشام ولبنان في القرن التاسع عشر الذين ضاقوا ذرعاً بالاضطهاد التركي لهم ولعرقيتهم بل ولأديانهم، فتوجهوا زرافات الى أرض الحريات في أمريكا الشمالية. إحتضن ماكيارولا ذلك الخليط الثقافي إلى أن توفاه الله منذ بضع سنين.

بعد ذلك بدأت كلية سان فرانسيس فى الانحدار على مستوى التثقيف، وإن ظلت متماسكة على مستوى الإدارة. وليس للطالب أو الطالبة دخل بالإدارة، إذ أن الهدف هو الدارسة والتخرج بدرجات علمية تنال ثقة رجال الأعمال والحكومات على اختلاف مستواها في امريكا من كلية بها مستوى الولاية الى مستوى الفدرالية الأمريكية. أصاب سان فرانسيس العطب المتزايد حينما لجأت الى تعيين مدير للدراسات الدولية ليس له أي دخل بمعنى الدولية، يستخدم شعارات "الاستراتيجية" وكأنها شارة لاصقة بدلاً من برنامج متناسق. لايعرف أحداً بالأمم المتحدة ولا بالبنك الدوى ولا بمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بجنيف، ولا بالبعثات الخليجية التى تستطيع امداد التعليم الجامعي بمنحها الفياضة، وطلابها الراغبين فى الحصول على درجات البكالوريوس والماجستير.

دفعني تصلب شرايين كلية سان فرانسيس إلى مغادرتها نهائياً خوفاً أن يمتد ذلك التصلب لي وهو أمر لايقبله على نفسه كل أستاذ جامعى يستحق صفة الأستاذية وصفة الجامعية. كما دفعني أيضاً إلى عدم متابعة العروض القادمة من أصدقائي بالخليج بالمدد المالي، إذ يتعارض الاسلام مع عدم الايمان بالمستفيد من ذاك العون.

وبإنسحابي من كلية سان فرانسيس، وجدت ضالتي فى خدمة مجتمعي عن طريق تعاون مع مسجد عثمان بن عفان. يستهويني ذلك الاسم إذ يشير الى الخليفة الثالث من الخلفاء الراشدين الذي استشهد فى منزله وهو يقرأ القرآن الذى قام عثمان بجمعه وتبويبه وترتيبه من مصادره الموثوقة. ولذا سمي القرآن "بمصحف عثمان" وأصبح المسجد معهداً لى، والإمام أخاً لي، وكذلك المصلين من المتحدثين بلغاتي وهى العربية والانجليزية والفرنسية، والداعين الى الصلاة من مختلف الجنسيات والهويات.

أحمد الله أن اصبحت داعية للخير فى منبر بعيد عن الآفات الجامعية من تزاحم على المناصب، والتباهي بالألقاب، والتمسك بنظم إدارية عالية، والرغبة فى التنافس على إدارة لكلية صغيرة تصف نفسها علناً بـ "الكلية الصغيرة ذات الأحلام الكبيرة" وليس فى الأحلام سوى الإبهام والإيهام بالاندفاع، بينما تبدو المناظر وهى تتراجع بسرعة الى الوراء، شأن راكب أى قطار ينظر من النافذة.

وليس فى العودة الى الوراء نفع للمرفق، وإن كان فيه نفع مؤقت للقائمين على أمر كلية فقدت رائدها ماكيارولا الذى كان وزيراً للتعليم بمدينة نيويورك.

عودتى إلى مسجد عثمان بن عفان هى إعراب عن يقيني بأن المسجد هو أيضاً بعد الصلاة معهد. هو أزهر مصغر، يزهو بأختلاف جنسياته، ويستمتع بالترتيل الغنائى الرائع للامام احمد دويدار، ويستمسك بمبدأ وحدة الصفوف فى الصلاة، ووحدة الهدف فى تثقيف مختلف الجنسيات الراكعين والساجدين فى امور الدين والدنيا، ومن بينها مقاصد الدستور الامريكي. ولم لا؟ وهو دستور البلاد التى لجأ اليها هؤلاء الناس، طالبين الحرية فى العقيدة وفى الاعمال وفى العقود وفى الشئون المصرفية والعقارية.

فمرحباً بالمسجد، الذى أرفع فيه صوتي بالوعظ والدعاء، مع عدم البطالة عملاً بالمقولة المشهورة لأبي بكر الصديق رضى الله عنه إذ قال"

“إذا وعظت فأوجز ، فإن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً .”

أرى وحدة فى المسجد الذى يديره إمام يدعو أهل الأديان الآخرى الى التوافد عليه.

وكان من بين الزائرين عمدة نيويورك "بيل دي بلازيو" ومن سبقوه في ذلك المنصب. أدى تعلق الإمام دويدار الى اختياره باحثاً رئيسياً بكلية الحقوق جامعة فوردهام بمدينة نيويورك وهى الكلية التى كان لى شرف التدريس بها عشر سنوات. إذ قمت فيها بتدريس مادة "الإسلام والأمن الدولى".

وما أبعد النظام في كلية سان فرانسيس عن نظام كليات المقدمة الأمريكية. فالأولى على مستوى البكالوريوس، والأخرى على مستوى الدراسات العليا بما فيها دكتوراة القوانين الأمريكية، وكما يقولون: ما أبعد الليلة بالبارحة" او كما يقول الخليفة المهدى والد هارون الرشيد:

وفرز النفوس كفرز الصخور *** ففيها النفيس وفيها الحجر

وبعض الأنام كبعض الشجر *** جميل القوام شحيح الثمر

وكم من شهاب بعالي السماء *** بطرفة عين تراه اندثر

وكم من كفيف بصير الفؤاد *** وكم من فؤاد كفيف البصر

وكم من أسير بقلب طليق *** وكم من طليق كواه الضجر

وما كل وجه مضيء يدور *** بعتمة ليل يسمى قمر

وكيف يجود كمان وعود *** إذا لم تهز يداك الوتر

فقطرة ماء مراراً تدق *** على الصخر حتى تشق الصخر

وبعض الوعود كبعض الغيوم *** قوي الرعود شحيح المطر

وخير الكلام قليل الحروف *** كثير القطوف بليغ الأثر

من أجل هذا فضلت المسجد على الكلية جميلة القوام شحيحة الثمر

وليس من طباعي "شحة الثمر" إذ بالإضافة الى إسهاماتي المتواضعه الى "صوت بلادى" التى أسسها ويديرها الموهوب الاستاذ منذ مايزيد عن الاربعين عاماً، صدر لى كتاب بالعربية بالقاهرة عن السعودية عنوانه "امبراطورية الصحراء" فى حوالي 200 صفحة، وناشره الصديق الاستاذ محمد أشرف يوسف عن طريق مؤسسته "عالم الكتب" والسلام.