بوابة صوت بلادى بأمريكا

دخان .. قصة: كرم الصباغ

عادة ما تنفض أسمار المساطب في مثل هذه الساعة من الليل؛ فتسكن حركة الأهالي، و تتلاشى أصوات الساهرين؛ فيملأ النباح الشوارع المظلمة، و تضج الغيطان بنقيق الضفادع، و صفير الصراصير.  تغلق الأبواب، و تطفأ المصابيح؛  فتجثم العتمة  فوق النجع. تغفو حياة، و تستيقظ حياة أخرى محمومة فوق الفرش، و إلا، فالنوم دهليز يدخله بلا تردد من فقدوا الرغبة، أو من هدهم التعب. أما  الطحان؛ فلم يكن له  نصيب من الحياتين؛ فلا هو ابتهج مع الساهرين، و لا هو خلا بزوجته فوق الفراش، لقد كان مؤرقا، و منطويا على نفسه كما جرت العادة، كان قابعا كصنم يغلي    فوق أريكة الجريد المتهالكة؛ كان  يعيد  نفس  المشهد للمرة  الألف؛ يجلس في نفس  الزاوية المعتمة، و يقلب  نفس الفكر في رأسه،  و يصل في نهاية الجلسة  الطويلة إلى نفس الحل الكريه، الذي طالما فر منه. مشهد معاد، و لكن على ما يبدو يوجد الليلة بعض الاختلاف؛ فالطحان يشعر بأنه   أكثر ضعفا من أي وقت مضى،  يشعر باليأس   لدرجة تمنى معها أن يحمله طائر ضخم  بين مخالبه،  ثم يفلته من أعلى نقطة؛ فيخر صريعا.  
    و  لما كانت الطيور، التي تحط على النجع ضئيلة، لا يقوى أي منها على حمل رجل، استسلم الطحان  لهاجسه الكريه، و قرر خوض التجربة.
(٢)
    يخرج من داره،   يشق رتق العتمة بحذر،   يقدم رجلا، و يؤخر أخرى،       يبدو عليه  الارتباك، تضيق أنفاسه؛  فيزيح اللثام عن وجهه،  و يلتهم    الهواء التهاما، و يشد  لثامه مرة أخرى، رغم تيقنه   من أنه مهما أمعن في التنكر بشد ألف لثام،  فسوف يتعرف عليه أهالي النجع   بمجرد النظر.
    يمضي  في طريقه مرتجف البدن، زائغ البصر.  يقبض   على كم جلبابه المتهدل بأسى، ثم يرسله بحسرة.     يتذكر الطاحونة المزدحمة،  يتنامى إلى سمعه جلبة الرجال و النساء، يرى نفسه  خلف القادوس، يطحن الأقماح، و الشعير بدربة، يتلذذ بتودد الأهالي إليه، حتى صاحب الطاحونة نفسه يسترضيه بشتى الطرق؛ فالطحان صاحب صنعة، يضرب بمهارته المثل، و الزبائن سوف تقصد مكانه، أينما ذهب. يسترضيه حتى لا يفكر مجرد تفكير في ترك العمل، و اللجوء  إلى  منافس مقيت، يقبع في الجوار بقلب أكله الحسد؛ إذ لم يكن له عمل  سوى هش  الذباب عن وجهه في طاحونته  الكاسدة. 
    يعاود القبض على كمه المتهدل؛ يشعر بألم مبرح فيما تبقى من ذراعه المبتورة، كأن النازلة أصابته البارحة. يومها انفجرت الدماء من ذراعه، التي  التهمها سير  الطاحونة  بشكل مباغت.  لم يقع في خلده قبل ذلك اليوم  أن يتحول في غمضة عين إلى عاجز، يفر منه الناس؛  فصاحب الطاحونة أصبح لا يتردد في تغيير الطريق، كلما  لمحه مقبلا عليه بوجهه، و  أهالي النجع صاروا يتحاشون الاقتراب منه؛ مخافة أن يسأل أحدا منهم شيئا؛  فقد ساءت سمعته بعد أن  تراكمت عليه الديون، و عجز عن السداد. لقد  جافاه المال تماما؛  فتحول إلى مماطل و بائع وعود كاذبة.
    ثلاث سنوات عجاف،   أرته النجوم في وضح النهار، و أسقطته سقوطا مريعا  من أعين الناس.  و زوجته ذهب ماء وجهها، بعدما أدمنت الكذب و المناورة، كلما طرق بابهما أحد الدائنين.  صار   في نظرها  و نظر عياله مجرد (خيال مآتة) لا تهابه الطيور، و مجرد جدار مائل، لا يمنحهم الظل، و لا يطرد عنهم الجوع، و لا يدخل  على قلوبهم المسرة.
(٣)
    يسير مبعثر النفس شاردا، و   يستفيق، فجأة أمام إحدى الدور الطينية الواطئة؛   فيخرج  معولا صغيرا، و يبدأ في   فتح شباك، نخره السوس،  لا  يصمد الخشب المنخور   أمام ضغطه الواهن   سوى لحظات. يتكئ على يده اليسرى، يرفع جسده النحيل بصعوبة، يقفز إلى داخل   الدار، يسير  على أطراف أصابعه، يبحث عن أي  شيء له قيمة. يجوس فأر، بشكل مباغت بين جريد السقف،  فينتفض  في مكانه، و يزداد رعبا فوق رعبه. تتلاحق  دقات قلبه، يتهيب حدوث فضيحة، أمست قريبة منه. تدور عيناه الزائغتان في صحن الدار، يتلفت ذات اليمين، و ذات الشمال، يتحاشى لمس الحيطان، و أبواب الحجرات الموصدة.  تجذبه رائحة، يتلقاها بأنف خبير، تقوده رائحة الطحين إلى غرفة الخزين، يحاول فتح الباب، يلامس قفلا كبيرا، أطبق على حلقتي المزلاج، يقف مبهوتا حائرا. و الروائح النفاذة لا تفتأ تزكم أنفه، تحدثه نفسه  بكسر القفل، لكنه سرعان ما يتراجع عن فعل ذلك؛ مخافة  أن يوقظ النائمين.  يسمع سعال أحدهم، يضطرب، و تغشاه الرجفة؛ يسمع صوت أقدام تتحرك؛  فيلوذ بالفرار.  يقفز من الشباك إلى الشارع المعتم، تلامس قدماه الأرض، يركض بأقصى سرعة،  يعود أدراجه  إلى داره  بوجه مصفر، و صدر لاهث، و جسد منتفض. يطرق الباب بوجل،  يفتح له أحد أبنائه، يدخل مطاطئا رأسه، تتعثر  قدماه   بأذيال خيبته الطويلة. يقف ذاهلا عما حوله، و لكنه يستفيق بعد لحظات، ينظر بريبة     إلى أولاده الذين  انهمكوا في جرش ثمار برتقال،  قبضت أيديهم، و  أضراسهم عليها بنهم.   يتلفت؛ فيرى   إوزة منتوفة الريش في  طست الصاج، و يرى قصعة ممتلئة بالعجين. يندفع إلى ذيل الدار، حيث  يقبع فرن الحطب،    يحملق في زوجته، يلمح  عينيها المكتحلتين، يشم  رائحة عطر يفوح من جلبابها الزهري، تلتقي أعينهما؛ فتهرب  ببصرها بعيدا، و تستقبل الفرن بوجهها الممتقع، و تغذيه  بعيدان الحطب؛ فيتصاعد ستار من الدخان، يحجبها سريعا عن عيني زوجها المرتاب. 
 
 
 
 

أخبار متعلقة :