بوابة صوت بلادى بأمريكا

المدقريّ ..عتمة البعد (5) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني

 
 
تتساقط أحلامنا في بساتين الغربة كأوراق الخريف، تعبث بها رياح البعد الباردة، تتيه القلوب في ممرات لا تعرف إلا لغة الوحدة، تبدو الأماكن الجديدة كفراغ مجهول، أستيقظ في كلّ صباح على وجوه لا تعرف ابتسامة حقيقية، وأتأرجح بين ذكريات الوطن وصخب الحاضر، أبني جسراً من الآمال على مياه البعد، وأحمل في حقيبتي قطعاً من الوطن، أتشبث بأحلامي؛ كالنجوم الباهتة في سماء الغربة.
يبقى الغريب رحالًا لا يتوقف، يتخذ من الحنين رفيقًا، ويكتب قصة البحث عن الانتماء في كتاب يتخذ من غربته فرصة لاكتساب الثقافات الجديدة والفهم العميق لأبعاد الحياة، تتلاشى الذكريات كأضواء بعيدة في عتمة البعد، ويسكن القلب وحيداً في أرجاء غربته، وتتحول الأماكن إلى صور ضبابية، يبتعد الأصدقاء شيئاً فشيئاً.
يا راحلون في مسارات لا تلتقي! تصاغ الغربة كظلٍّ يُطوى بين الأضلاع، ويترجم القلب في صمتها أحاسيس الوحدة المتسللة.
تتمايل ذكريات الأماكن البعيدة في ذهن الغريب حين يحاول استيعاب الأجواء الجديدة، وتظهر الشوارع الضيقة كأفق غير مألوف، وتبدو الوجوه كلوحات فنية مجهولة، تتلاشى أصوات الناس في الهمس الصامت للغربة، حيث تكون اللغة ألغازاً يحاول فك رموزها، وتتسلل الأصداء في قلب الليل الساكن بين زوايا الروح، ذلك الشعور الذي يتغلغل في أعماقنا كالجذور في تربة الوجدان، فالغربة ليست مجرد حالة مكانية، بل هي ذكريات هادئة تحركها الأحاسيس، فتحمل معها حسرة لا تلتمس المأوى في أيّ مكان.
ما الغربة إلّا رحلة بحث عن الانتماء! حيث يتلاشى البيت الأول، وترسم أحلام جديدة، ويتحول الغريب إلى رحال؛ يحمل معه قطعًا من وطنه الأصلي، يتذكر في كل لحظة صورًا وأحداثاً ومواقف تحمل عبير التاريخ وصدق الالتقاء.
ينمو الإنسان ويتحدى زمنه في غربته، يتعلم لغة جديدة للحياة في تلك الأماكن المختلفة، يفهم أن الغربة مصير لا بدّ منه، هي ليست نهاية بل بداية رحلة استكشاف الذات، ينبت الأمل في الغربة؛ كورقة خضراء في صحراء كبيرة، لكن تبقى القلوب متصلة بجذورها رغم بعدها. وفي نهاية المطاف يكون الغريب قد بنى جسرًا بين الماضي والحاضر، ورسم خريطة تحمل قصة حياته الملونة؛ إنه يدرك أن الغربة ليست فقدانًا، بل فرصة لاكتساب الحاضر، وسبيلًا لتجربة الحياة بألوان جديدة.
تتلألأ الأوجاع أيام الغربة؛ كنجوم حالمة في سماء الحنين، ويمتد الزمن كشاطئ لا ينتهي، يلتقي الأمس باليوم في دائرة لا نهاية لها، ويجتمع في هذا الفضاء الغريب الحنين والبعد؛ لينسجوا سجادة تروي قصة الوحدة، تمتزج أصوات اللغات في هذا المكان المتعدد الألوان، ويتداخل الكلام بلهجات وأصوات مختلفة، يبنون جسرًا من الحروف يربط بين الماضي والحاضر، وتسلل الروح بين صفحات الحنين؛ لتبحث عن وجه ذكرى تلتصق به، ولكن الوجوه تتلاشى في بحر الزمن والهموم.
في هذا العالم الجديد تشرق نوافذ الفرح والألم، وينبض القلب بلحن البحث عن الهوية، يتساءل عن مكانته في هذا المحيط المتلاطم، وتعبث الأحلام بأفكار الغريب، تتسلق جدران الصمت في سعيها للترجمة، وفي لحظة من الزمن يلتقي الغريب بآخرين يحملون عبئًا مماثلاً، تتشابك حكاياتهم لتشكل خيوطًا تصنع لوحة فنية فريدة؛ إنهم يبنون معاً ملاجئ للروح الهاربة من أواصر الوطن، يشعلون شموع أمل تضيء دروب الغربة.
وفي صمت الليالي الطويلة يتسلل الحنين إلى قلب الغريب، يستحضر ذكريات الوطن كأغنية قديمة ترافق خطى الشوق. يتأرجح الروح بين شواطئ الذكريات، ويسترجع الرائحة الطيبة للتربة المبللة بالمطر وصوت زقزقة العصافير في فجر الوطن. تحلَّق العيون في سماء الحنين، وتتساقط الأحلام كالأمطار الدافئة على الأرض البعيدة، فالوطن ليس مكانًا فقط، بل هو قلب ينبض بحنين لربوعه، وليست الغربة سوى تجربة في بناء جسر من الشوق بين الحاضر والماضي!
في رحلتي المتعبة أحافظ على الانتماء وإبداء الهوية، أدرك أني محاط بتحديات لا تعد ولا تحصى، أصارع الوحدة والغربة بكل قوتي، يتجلى في عمق قلبي الصمود والإصرار على البحث عن ذكريات الوطن، وتظل الأحلام شمساً مشرقة تضيء طريقي الملتوي في هذا البحر الهائج من التحديات؛ لأبصر آمالًا تتسلل إلى قلبي، فشموع البقاء بالإصرار مضيئة في سماء الغربة.
أتعلم كيف أتأقلم مع البيئة الجديدة، كيف أتحدث لغة الغرباء، كيف أجد طريقي في شوارع الغربة الضيقة، ورغم تلاشي الوجوه والأصوات العزيزة لا زلت أبني علاقات جديدة، أجدد الفرح في قلبي بصداقات تتشكل مع مرور الوقت، لكن تبقى ذكريات النشأة الأولى تنبض في القلب؛ كنجوم لامعة في سماء الليل؛ لتضيء لي الطريق، وتشعرني بالارتياح، فأنا أدرك أن الغربة ليست نهاية الطريق، بل بداية مغامرة جديدة، تجسد فيها قصص الصمود والتحدي والنجاح!

أخبار متعلقة :