أصدرت الدائرة الثانية – بمحكمة القضاء الإداري – حكماَ قضائياَ فريداَ من نوعه ينهى النزاع والخلاف القائم حول عمل المرأة وتوليها القضاء بمحكمة مجلس الدولة.
ورسخ الحكم لعدة مبادى قضائية، منها أن التعيين بوظيفة مندوب مساعد هي سلطة تقديرية مطلقة لا يحدها سوى الصالح العام، ولابد من تهيئة بيئة العمل حتى تتناسب مع طبيعة المرأة، وأن المساواة في الحقوق العامة لا يفترض باللزوم والضرورة صلاحية المرأة للاضطلاع بمهام بعض الحقوق ومنها تقلد بعض الوظائف العامة، إذ أن لعوامل البيئة وأحكام التقاليد وطبية الوظيفة ومسئولياتها شأن كبير في توجيه السلطة الإدارية الوجهة التي تراها محققة للمصلحة العامة ومتفقة مع حسن انتظام المرفق العام".
صدر الحكم في الدعوى المقيدة برقم 12972 لسنة 73 قضائية، برئاسة المستشار فتحي إبراهيم توفيق، وعضوية المستشارين إبراهيم عبد الغنى، وحامد محمد، وخالد سرحان، وأمانة سر أحمد عبد النبى.
التعيين في إحدى الوظائف القضائية هو مما تستقل جهة الإدارة
المحكمة قالت في حيثيات الحكم أن التعيين في إحدى الوظائف القضائية هو مما تستقل جهة الإدارة به بمقتضي سلطتها التقديرية في حدود مبدأ الشرعية، ولها أن تضع من الشروط اللازمة لشغل إحدى الوظائف القضائية، تعلن عنها، فاعلان جهة الإدارة لهذه الشروط يفرغ سلطتها التقديرية في قاعدة تنظيمية تتيح لكن من استوفى الشروط المعلن عنها أن يتقدم لشغل الوظيفة، حيث يحدد تلك الشروط المجلس الخاص للشئون الإدارية بمجلس الدولة، والذي يشكل من شيوخ القضاة الذين أوتوا من حكمة السنين أن يضعوا الشروط اللازمة في المتقدم لشغل الوظيفة القضائية التي تضمن توافر الصفات والقدرات الخاصة التي تؤهله لممارسة العمل القضائي على الوجه الاكمل، وذلك لاختيار أفضل العناصر لتولي الوظيفة القضائية.
ووفقا لـ"المحكمة" - فقد أحاط الدستور والقانون والمعاهدات الدولية - مبادئ الأمم المتحدة بشأن استقلال القضاء - والتي اعتمدت في عام 1985، وتؤكد على أن السلطة القضائية ومن بينها مجلس الدولة وعلى قمته المجلس الخاص محاط بسياج من الاستقلال لإدارة شئون العدالة، وأولى تلك المبادئ تعيين القضاة واختيارهم لتولي مناصبهم فهو جزء لا يتجزأ من استقلال ضمائرهم تحقيقا لرسالتهم السامية، والتأكيد على أن التعيين بالوظائف القضائية يكون عن طريق المجالس العليا للهيئات القضائية المعنية، ولا مسوغ للتدخل في تقديراتهم أو التدخل في شئونهم.
التعيينات في مجلس الدولة سلطة تقديرية مطلقة لا يحدها سوى الصالح العام
وبحسب "المحكمة" - كما يدخل في إطار السلطة التقديرية للمجلس الخاص للشئون الإدارية بمجلس الدولة اختيار أداة التعيين، والفئة التي يتم التعيين منها، فقد أطلق المشرع سلطتها في المادتين 85 و 81 في اختيار وسيلة التعيين حيث أجاز التعيين في وظيفة مندوب بمجلس الدولة من يشغلون وظائف قضائية بجهات وهيئات أخرى، أو المعيدون بكليات الحقوق أو المشتغلون بوظائف مناظرة للعمل القضائي، كما أجاز تعيينهم في وظائف أعلى من درجة مندوب، ومن ثم فإن سلطة المجلس في اختيار وسيلة التعيين للذكور أو الاناث سواء بطريقة التعيين بوظيفة مندوب مساعد ابتداء بوسيلة الإعلان لخريجي كليات القانون، أو التعيين في وظائف أعلى من الجهات المشار اليها إنما هي سلطة تقديرية مطلقة لا يحدها سوى الصالح العام وحسن انتظام العمل القضائي.
وتُضيف "المحكمة" - وبخصوص القرارات الصادرة عن المجلس الخاص للشئون الإدارية بمجلس الدولة، فإنه من غير المتصور أو المقبول نسبة عيب الانحراف عن المصلحة العامة للقرارات الصادرة عنه، إذ أن ذلك العيب من العيوب القصدية التي يتنزه عنها رجال أمضوا عمرهم في خدمة العدالة وتحقيق سيادة القانون، وتدرجوا في مناصبهم القضائية تحت رقابة التفتيش الداخلي لمدة جاوزت 40 عاما، حتى طبعت سجيتهم وضمائرهم على استهداف المصلحة العامة، ابتغاء وجه الحق والعدل في جل تصرفاتهم الشخصية والمهنية، فهم القائمون على شئون العدالة في أرفع مدارجها، ويتشكل منهم المجلس الخاص بتأديب أعضاء مجلس الدولة.
حق المرأة في تولي الوظائف العامة
كما حرص قضاء مجلس الدولة على تقرير حق المرأة في تولي الوظائف العامة، ومساواتها بالرجل وحظر أي تمييز بينهما - دون مبرر أو سبب موضوعي - فقد ذهبت المحكمة الإدارية العليا إلي تسوية الحالة الوظيفية للمرأة مثلها مثل الرجل على سند من أنه: "لا وجه للتفرقة في هذا الشأن بين الذكور والاناث" إلا أن هذا الحق كغيره من الحقوق ليس حقا مطلقا، ففي جوانب منه يمكن تفضيل المرأة في بعض الوظائف التي تتلاءم مع طبيعتها وتكوينها كوظائف التدريس والتمريض وتعليم الأطفال "حتى أصبحت بعض الكليات قاصرة على الاناث دون الذكور".
ومبدأ الصلاحية العامة لشغل الوظيفة هو المعيار الذي ارتكن اليه القضاء الإداري في تقرير الحق لشغل الوظيفة العامة – في غير وظائف القضاء كذلك- ومن بواكير قضاء مجلس الدولة في هذا الخصوص ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية العليا، وأن طبيعة هذا الوظيفة تتطلب المشقة فان هذه المشقة البالغة والاستهداف للمخاطر المخوفة والمسالك غير المأمونة إذا فرضا على المرأة لكان فيهما ما يتعارض مع الظروف الملائمة الواجب توفيرها للمرأة حين تسند اليها وظيفة من الوظائف العامة وعلى ذلك فلا تثريب على الجهة الإدارية لو جنبت المرأة مسالك لا تحمد مغبتها وحبست عنها وظائف ينبغي قصرها على الرجال باعتبارهم أقدر على احتمال أعبائها وأقدر على معاناة مشقتها - هكذا تقول "الحيثيات".
تولي المرأة الوظيفة القضائية
وفي خصوص تولي المرأة الوظيفة القضائية ذهب القضاء الإداري منذ نشأته: "قصر بعض الوظائف كوظائف مجلس الدولة أو النيابة أو القضاء على الرجال دون النساء لا يعدو هو الاخر أن يكون وزنا لمناسبات التعيين في هذه الوظائف تراعي فيه الإدارية بمقتضي سلطتها التقديرية شتى الاعتبارات من أحوال الوظيفة وملابساتها وظروف البيئة وأوضاع العرف والتقاليد دون أن يكون في ذلك حط من قيمة المرأة ولا نيل من كرامتها ولا غض من مستواها الأدبي أو الثقافي، ولا غمط لنبوغها وتفوقها ولا اجحاف بها، وإنما هو مجرد تخيير الإدارة في مجال تترخص فيه لملاءمة التعيين في وظيفة بذاتها بحسب ظروف الحال وملابساته كما قدرتها هي، وليس في ذلك اخلال بمبدأ المساواة قانونا ومن ثم فلا معقب لهذه المحكمة على تقديرها ما دام خلا من إساءة استعمال السلطة".
رأى الفقه الإسلامي في تولى المرأة القضاء
كما ذهبت المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 63 – لسنة 20 – تاريخ الجلسة 2 يوليو 1979 إلى أن "وكان قانون مجلس الدولة وأن لم يتضمن نصا صريحا يحظر تعيين المرأة في وظائفه الفنية إلا أنه كذلك لم يورد نصا بوجوب مساواتها بالرجل في شغل هذه الوظائف، ولما كان ذلك وكان من مذاهب الفقه الإسلامي فيما يتعلق بولاية القضاء على التحديد ما لا يجيز تقليد المرأة القضاء، ومنها ما يجيزه لكل من الرأيين حججه وأسانيده، فانه يجوز للجهة الإدارية والحال كذلك أن تترخص في الأخذ بأي من الرأيين المذكورين بما تراه أكثر ملائمة لظروف الحال في الزمن الذي أصدرت فيه قرارها".
لذلك فقد حرص الدستور الحالي لجمهورية مصر العربية على النص الوارد بالمادة 11 منه على مخاطبة جهات الدولة المختلفة على العمل باتخاذ التدابير الكفيلة بضمان حق المرأة في التعيين في الجهات والهيئات القضائية، وهو ما يساير الأحكام السابقة الصادرة عن القضاء الإداري ولا يناقضها، انما ألزم الجهات الإدارية بالدولة على تذليل العقبات والصعاب التي تعترض سبيلها في أداء تلك الوظيفة، الأمر الذي يفيد أنه ثمة مهام على كاهل الدولة ينبغي تهيئتها حتى تتناسب بيئة العمل مع طبيعة المرأة، كالتقاضي الالكتروني وتوفير بيئة العمل المناسبة للعمل وتقريب جهات التقاضي وغيرها من الوسائل، وكذلك تغيير البيئة والعادات والتقاليد، إذ أن الحكم الدستوري المجرد الذي يقضي بالمساواة في الحقوق العامة لا يفترض باللزوم والضرورة صلاحية المرأة للاضطلاع بمهام بعض هذه الحقوق ومنها تقلد بعض الوظائف العامة، إذ أن لعوامل البيئة وأحكام التقاليد وطبية الوظيفة ومسئولياتها شأن كبير في توجيه السلطة الإدارية الوجهة التي تراها محققة للمصلحة العامة ومتفقة مع حسن انتظام المرفق العام.
علاقة مبدأ المساواة بتولى المرأة القضاء
وتؤكد "المحكمة" - ليس فيما تترخص فيه الجهة الإدارية في هذا الصدد -في ضوء هذه الاعتبارات- اخلال بمبدأ المساواة المقرر دستوريا، ولا هو تجاهل لكفاية المرأة ولا غمط لكفاية المرأة أو خطارة شأنها لأن تقدير هذا الاستحسان أو تلك الملائمة، وما الى ذلك من الوجوه والاعتبارات الباعثة على ترخص الإدارة في هذه الملائمة واتجاهه إلي تقليد بعض الوظائف لأحد الجنسين دون الآخر بحسب ظروف الحال وملابساته هو من الأمور التي تدخل في السلطة التقديرية التي لا معقب لهذه المحكمة ما دام هذا التقدير قد خلا من الانحراف بالسلطة، فمبدأ المساواة ليس مبدأ تلقينيا جامدا منافيا للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء، تنبذ صور التمييز جميعها، ذلك أن من بينها ما يستند الى أسس موضوعية، ولا ينطوي بالتالي على مخالفة للدستور.
ومن حيث أنه على هدى ما تقدم - ولما كان الثابت من الأوراق أن المدعية وطالبة التدخل الأولى تقدمتا لسحب الملف اللازم للتقديم لشغل وظيفة مندوب مساعد بمجلس الدولة دفعة 2017، وذلك لكونهما حاصلتين على ليسانس الحقوق دفعة 2017، ولكن الجهة المطعون ضدها لم تسلمهما الملف نظرا لأن الإعلان اقتصر على الذكور دون الاناث، ولما كان ذلك من الأمور الداخلية في سلطتها التقديرية التي لا معقب لهذه المحكمة عليها ما دام التقدير قد خلا من الانحراف بالسلطة، الأمر الذي ينتفي معه أي الزام على الجهة المطعون ضدها بتسليم الطاعنتين ملف الترشيح لشغل وظيفة مندوب مساعد بمجلس الدولة، الأمر الذي تقضى معه برفض الدعوى.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع