حسنى حنا يكتب: الدكتور نقولا زيادة.. مؤرخ العصر الحديث

حسنى حنا يكتب: الدكتور نقولا زيادة.. مؤرخ العصر الحديث
حسنى حنا يكتب: الدكتور نقولا زيادة.. مؤرخ العصر الحديث

"بحضوره انفتح كتاب التاريخ بصفاء، بل انفتحت موسوعة الزمان".

*فاروق وادي

 

يعد المؤرخ الدكتور نقولا زيادة، من رعيل المثقفين الأوائل إذ شهد كل القرن العشرين، واحداثه التاريخيه المريرة. وكان بمثابة سجل حي، بما يحتفظ به من الذكريات الخصبه.

نقولا زيادة... مؤرخ عتيق لكنه مجدد، فهو من أبناء بدايات القرن العشرين، جيل المؤرخين المشهورين: د.فليب حتي، محمد شفيق غبريال، مجيد خدوري، جواد مصطفى وألبرت حوراني وغيرهم.

وقد أسهم الدكتور نقولا زيادة في إغناء الحياة الثقافية والفكر العربي. ليس بكتبه ومقالاته العديدة في التاريخ ومشاركاته ومحاضراته، ومساهماته وفي تعليقاته، وهو إنسان من نوع نادر، يعتني بصحته وملبسه، وأكله وشربه. ولم يزل يشعر وكأنه شاب، يمتلك قلباً كبيراً في اخضراره وحيويته فى الحياة.

 

 

لمحة عن حياته

ولد نقولا زيادة في الثاني من شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام (1907) في مدينة دمشق، من أبوين فلسطينيين من مدينة الناصرة.

وكان والده يعمل موظفاً في القسم الهندسي، في مؤسسة الخط الحديدي الحجازي. وبعد فقدان والده، وهو في الثامنه من عمره. عاش طفولة صعبة بمعية أمه، التي عادت به الى مدينة الناصرة عام (1917) مع اخوته الثلاثة حيث يقطن خاله الوحيد، الذي تعهده بالرعاية..

ومالبث أن قتل خاله في إنفجار قنبله ألقتها طائرة بريطانية. وفي سن السادسة عشر (1921) تم قبول نقولا زيادة للدراسة في دار المعلمين بالقدس. وبعد تخرجه منها عمل مدرساً للتاريخ والجغرافيا في عكا. وفي فلسطين تعرف على بعض بعثات التنقيب الأثري، حيث عمل مع السير فلندرز بتري في حفرياته الأثرية، وقد بدأ مؤرخاً منذ عام (1930) حيث نشر مقالاً في مجلة المقتطف عن معركة مجدو الشهيرة في التاريخ.

وفي عام (1935) اختير لبعثة لدراسة التاريخ القديم في جامعة لندن حيث حصل على البكالوريوس في عام (1939) وعاد بعدها الى القدس، لتدريس التاريخ القديم وتاريخ العرب، في الكلية العربية فى القدس. وقد صدر اول كتاب له في عام (1943) بعنوان: (رواد الشرق العربي في العصور الوسطى).

وفي عام (1947) سافر الى جامعة لندن من جديد للاعداد لشهادة الدكتوراه. وفي عام (1950) حصل على هذه الشهادة.

وبعد احتلال فلسطين نزح نقولا زيادة إلى لبنان، حيث التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت. للتدريس فيها عام (1958)، وظل فيها حتى عام (1973). حيث تقاعد وهو في سن الخامسة والخمسين. وانتقل الى جامعة القديس يوسف في بيروت حتى عام (1992) كما درس في الجامعة الأردنية لمدة سنتين (1976- 1978) بعدها عاد الى بيروت عاملاً في الجامعة اللبنانية، محاضراً ومشرفاً ومشاركاً في عدة مؤتمرات دولية.

وعمل نقولا زيادة أستاذاً زائراً في عدد من الجامعات الكبرى. بينها جامعة هارفارد بامريكا، وعين شمس بمصر. وفي ليبيا. وكتب في الصحف والمجلات. وكان هدفه تصحيح المغالطات أو النواقص في الموضوعا التاريخية المنشورة في الصحف،وتثقيف أولئك العامة من الناس، الذين لم تتح لهم الفرصة لاتمام دراستهم.

 

مؤلفاته

يقول نقولا زيادة عن مؤلفاته: لي أربعون كتاباً باللغة العربية وستة كتب باللغة الانكليزية، وتسعة كتب مترجمة من الانكليزية إلى العربية، وكتاب مترجم من الألمانية الى العربية اسمه (تاريخ العرب). أما المقالات فكثيرة. ولي (1700) حديث إذاعي بالعربية كتبتها وقدمتها، وحوالي (500) بالانكليزية. وقد قامت (الأهلية للنشر والتوزيع) بجمع مؤلفاته العربية في مجموعة كاملة سنة (2002) دعيت (الأعمال الكاملة) في (23) مجلداً ومن أهم مؤلفاته:

-رواد الشرق العربي في العصور الوسطى (1943).

-العالم القديم –جزآن- (1942)

-صور من التاريخ العربي (1940)

-شخصيات عربية تاريخية (1946)

-عالم العصور الوسطى في اوروبا (1947)

-الجغرافيا والرحلات عند العرب (1987)

-شاميات.. دراسة في الحضارة والتاريخ (1989)

-لبنانيات.. تاريخ وصور (1992)

-أيامي.. سيرة ذاتية –جرآن- (1992)

-في سبيل البحث عن الله (2000)

-المسيحية والعرب (2001)

-الفكر اليوناني في الثقافة العربية- ترجمة- (2003)

-تاريخ البشرية –جزآن- ترجمة عن الانكليزية للمؤرخ أرنولد توينبي.

 

 

نقولا زيادة والتاريخ

يقول زيادة عن التاريخ أنه حركة دائمة. وهو يستعمل كلمة (حركة) عامداً، ولايقول سير التاريخ أو مسيرة التاريخ. فالسير والمسيرة في نظره. كلمتان تدلان على اتجاه في خط واحد على العموم. لكن الحركة لاتتقيد باتجاه واحد. فقد تكون الى الأمام أو اليمين أو اليسار الى فوق أو تحت. ونراه لم يقل الى الخلف، لأنها لاتتجه الى الخلف. إنها تتطلب شيئاً فيه دفع، وليس فيه رجوع!..

لقد كان المؤرخ نقولا زيادة صاحب رؤية تاريخية. ورسالة فكرية وتربوية سعى أن يوصل الى القارئ معارفه، وما مكنه العمر من جمعه للثقافات العالمية. وماكشفته آخر الحفريات الأثرية والبحوث العلمية في المشرق والمغرب. وكان مفكراً ومؤرخاً. جمع بين جدية التحليل وغزارة الانتاج.

لم يغب التاريخ عن حياة نقولا زيادة فكرس له حياته. لكنه لم يبقه تاريخاً جافاً، بل أدخل إليه أسلوبه الأدبي، وكأنه ولد ليكون مؤرخاً، أو يسهم في صناعة التاريخ، الذي كان يدافع عنه، ويردد دائماً جملته: "تعلم الناس من التاريخ أن لايتعلموا".

 

 

نقولا زيادة والقضية الفلسطينية

كان هم الزعماء العرب أن يكونوا زعماء، وبعدها يهتمون بالقضية..هناك فرق بين أن تكون القضية هي الأساس عندك. والزعامة تأتي عن طريق القضية. لكن كانت القضية تأتي عن طريق الزعامة.. هذا السبب يمكن أن يكون السبب، الذي جعل نقولا زيادة لايكتب عن القضية الفلسطينية، وقد رحل نقولا زيادة دون أن يؤرخ للقضية الفلسطينية، وليته فعل!..

 

 

لقائي بالدكتور نقولا زيادة

كان لي شرف اللقاء لأول وآخر مرة بالدكتور نقولا زيادة، يوم قدم الى مدينة جبلة على الساحل السوري، القريبة من مدينة اللاذقية محاضراً، بناء على دعوة من فرع جمعية العاديات في جبلة. وذلك منذ نحو ربع قرن. وقد كان موضوع محاضرته يومها (صراع الحضارات وحوار الحضارات).. ألقى محاضرته واقفاً، لايحمل غير عصاه، وورقة صغيرة سجل فيها رؤوس أقلام. وقد بدا مفعماً بالحركة والنشاط، ميالاً الى الابتسامة. طلق المحيا. يتمتع بذاكرة عجيبة ولغة سليمة. وقد أنكر في محاضرته وجود صراع حضارات وحوار حضارات في التاريخ. وإنما تواصل وتفاعل، تأثر وتأثير. قالحضارة القوية تعطي والعادية تساعد، والضعيفة تأخذ. وفي ختام المحاضرة كان يجيب على أسئلة الحضور، تغمره روح الشباب وحيويتهم.

 

 

نقولا زيادة ومي زيادة

ومن عجيب المصادفات التي استوقفتني في سيرة المؤرخ والاديبة ماري زيادة المعروفة بـ (مي زيادة) كانت تتقن العربية والفرنسية والأمانية والأسبانية والأيطالية. وأن الدكتور (نقولا زيادة) كان يتقن العربية والأنكليزية والألمانية واليونانية واللاتينية. ولم تنشر الدراسات التي تناولت نقولا زيادة إلى وجود قرابة عائلية بينه وبين مي زيادة!..

 

نقولا زيادة والسياسة

لم ينخرط نقولا زيادة في أي جهد سياسي، ولم تشغله السياسه يوماً عن حياته الفكرية، والثقافية والتربوية. لكن مذكراته التي جاءت تحت عنوان (أيامي.. سيرة ذاتيه) حفلت بأخبار رجال السياسة. فضلاً عن رجال الفكر والأدب والتربية. ومن أقواله في هذا المجال: "بسبب افتقاد الزعماء العرب للأفكار في العمل السياسي الذي لايعرفون فنونه، بيتنا ننتقل كل يوم من نكبة الى آخرى"!.

 

سوريا عند نقولا زيادة

عاش نقولا زيادة ومات، وهو مؤمن بوحدة سوريا الطبيعية، وكان يعتبر نفسه مواطناً سورياً بالمعنى الواسع لهذه العبارة وهو يقول أن سوريا بلاد غنية بالذكريات، غنية بالعظمة الخالدة وإنما تحتاج الى من يتذكر قيمة بعض هذه العظمة. وأي بلاد أحق بالذكرى من سوريا"!..

 

 

وفاة نقولا زيادة

جاءت الأنباء من لبنان برحيل عميد المؤرخين العرب في العصر الحديث الدكتور نقولا زيادة. يوم الجمعه في (26تموز/ يوليو 2006) عن عمر ناهز التاسعه والتسعين عاماً.

إن حياة مؤرخ العصر الحديث الدكتور نقولا زيادة،وأحد عمالقة القرن العشرين، حافلة بالانجازات، تشهد على ذلك مؤلفاته ومحاضراته ومقالاته ومساهماته في الندوات والمؤتمرات العربية والعالمية.. وقد كان شاهداً على عصره، عاش آلام أحداثه ومآسيه. وتخرجت أجيال من المثقفين على يديه. يسحرك بسرده التاريخي المتسلسل والسلس والمنطقي، يحيط بجوانب الموضوع بشمولية. ذاكراً وجهات النظر المطروحة ليصل الى التصور المقبول والصحيح. والتاريخ كما يقول توينبي Toynbee "تحد واستجابه" وقد ركز على ضرورة ربط الأرض (الجغرافيا) بالتاريخ في جو مشبع بالروح الانسانيه.

 

 

تكريم نقولا زيادة

نقولا زيادة هو موسوعة هذا الزمان. لم يكن أكاديمياً فحسب، بل كان نموذجاً فذاً للمثقف الشامل. فإلى جانب التاريخ غاص زيادة في قراءة الحضارات والثقافات وتاريخ الاقتصاد والأديان والرحلات، وأدب السيرة حين أصدر سيرته الذاتية تحت عنوان (أيامي) في جزئين.

وكان زيادة معلماً بكل معنى الكلمة.. سبعون عاماً ويزيد في ممارسة التعليم المدرسي والجامعي. لم يتوقف خلالها عن الانتاج الكتابي.

كان علامة وعلامة بكل معنى الكلمة. وجيلنا العربي الهاه التكاثر عن قراءة التاريخ الغني، الذي كتبه نقولا زيادة ومن هم على الطريق ذاتها.

وبعد وفاة نقولا زيادة أقيمت ندوات عديدة للتحدث عن مؤرخ العرب في القرن العشرين. وبخاصة في بيروت ودمشق وعمان والقدس تحدث فيها الأساتذة المحاورون عن اهتماماته الموسوعية في التاريخ. على أختلاف وجهات النظر فيه. وقد حمل الهم العربي طيلة قرن من الزمن. وكان يقول عن نفسه: "إن حياتي مثلث أضلاعه (المسيحية والأرثوذكسية والعروبة).

وقد ذكر أحد الأصدقاء في حفل تكريمه وتأبينه في دمشق أنه كان يدرج نحو المئة بفرح غامر، ويخطط لأيامه المقبلة، بنشوة الأيام الأولى عاش القرن العشرين بطوله وفي فؤاده ثلاث حسرات هي (فقدانه لوالده في سن مبكرة، وفقدان وطنه فلسطين، ثم فقدان زوجته) كما كان في فؤاده أربع متع لم يبرح عطرها وهي: (السفر والحروف والحسان والنبيذ).

قال عنه الدكتور أنيس الصايغ:

"كان نقولا زيادة من المؤرخين القلائل، الذين تتعدى معرفتهم التاريخية حقباً وفصولاً، أو عهوداً أو شعوباً محددة. كانت معلوماته وتحليلاته التاريخيه تشمل دائرة عريضة جداً في الومان والمكان".

وقال عنه الدكتور محمد عبيد الله:

"اعتمد نقولا زيادة على التواصل مع أقرانه من خلال المقالات التي ظهرت مجموعة منها في جريدة الحياة بعد وفاته" ولفت عبيد الله إلى أن نقولا زيادة ربط بين الأدب والتاريخ من خلال مقالاته، وعمق لوناً خاصاً من الكتاية، يمكن تسميته بالأدب التاريخي.

اما الدكتور سيار الجميل فقد قال:

"نقولا زيادة كالعنقاء، يطاول الزمن الصعب"

ومن عام (1907) الى عام (2006) قرن من الزمان، قضاه المؤرخ الكبير نقولا زيادة بين الدراسة والتعليم والعطاء الفكري والأدبي.. غاب جسداً لكنه بقي حياً في القلب والذاكرة.