إدوارد فيلبس جرجس يكتب : على هامش انتصار أكتوبر 1973

إدوارد فيلبس جرجس يكتب : على هامش انتصار أكتوبر 1973
إدوارد فيلبس جرجس يكتب : على هامش انتصار أكتوبر 1973
 
لا أقصد بأن نصر أكتوبر أصبح على الهامش بعد مرور 49 عاما ، هذا النصر سيظل أيقونة على تاريخ مصر حتى لو مضت عليه مئات السنين ، ولا يمكن أن يكون هامشا . كنت أحد الذين شاركوا فيه ومن قبله حرب الاستنزاف وأحمد الله أديت واجبي كاملا كضابط احتياط جُندت عقب تخرجي من الجامعة فورا وعقب الهزيمة الملعونة في الخامس من يونيو عام 1967 . نصر أعاد الدماء إلى شرايين مصر ، كتبنا وكُتِبَ عنه الكثير وكل عام يزداد الحديث عنه وكأننا نتمسك بهذا الانتصار ليكون مُلهما لخطوات الحاضر والمستقبل ، يكتب عنه من عاصره ومن استلهم عظمته ممن عاصروه ، ما أقصده بالهامش هو ما أحاط بذلك اليوم كجزئيات صنعت منه هذه الملحمة الخالدة التي أعادت الأرض بالمعركة والسلام  . الموضوع بالنسبة للذين عاصروا هذا الانتصار يمثل نبضات قلوبهم ولا تغفل عنه العين ولو للحظة قصيرة ، لكن بالنسبة الذين لم يزامنوا هذه الفترة وأقصد بها الفترة ما بين هزيمة يوانيو 1967 وانتصار اكتوبر 1973 قد لا يدركوا تماما أو قد لا يتفهموا معنى هذا الانتصار بكل أبعاده وهو بمثابة عودة الروح إلى الجسد الذي فارقته عنوة .  أجيال لم تزامن هزيمة مرة طأطأت بعدها الرؤوس ولم يشاهدوا نصرا مجيدا رفع الهامات لعنان السماء ،  لم يعيشوا سنوات عجاف عانى فيها الشعب نفسيا وجسديا معاناة أكبر وأفظع من الموت ، النفوس مليئة بالمرارة والأجساد كلها متعبة من صعوبة العيش ، ميزانية الدولة معظمها تذهب للجيش الذي ازداد عدده بشكل كبير بعد أن أُستدعي الاحتياطي وجند معظم المؤهلات سواء العليا أو المتوسطة عملا بنصيحة الروس الذين كان الرئيس جمال عبد الناصر قد اتجه إليهم بكل قوة بعد مساعدته في بناء السد العالي ، لم يستخدم الحكمة فباتت بينه وبين أمريكا والغرب عداوة شديدة كانت لها ضلعا في هزيمة يونيو 1967 . أجيال لم تعاصر مدنا بأكملها هُجر سكانها " السويس والإسماعيلية وبورسعيد " وأصبحت خرابا ، سكانها تركوها وهربوا من ضربات حرب الاستنزاف وما أدراك ما يحدث في مثل هذه الأحوال من فقدان العمل وأُسر بأكملها تبحث عن مأوى وما ترتب على هذا الوضع المجحف ، أجيال  لم تسمع عن الجنود الشهداء الذين سقطوا في هزيمة يونيو دون ذنب وقد فر قادتهم من الجبهة دون تخطيط ، هروب غريب ومؤسف ، وجيش تفكك كلعبة في يد طفل عدواني نتيجة لعدم وجود القيادة الواعية التي انصرفت للهو ولم تحسب حساب غدر العدو الذي يتربص بمصر ، أجيال الآن تحتفل بنصر اكتوبر ولم تعش فترة ظلامية قصمت ظهر البلد وألمها لا يزال ينبض حتى الآن في دماء الذين عاصروها وكما أقولها وأكتبها دائما أنه لولا هذه الفترة الظلامية التي انتهت بهزيمة يونيو ما اضطررنا إلى حرب اكتوبر والتي انتهت بستر من الله وبطولات واستشهاد الكثير من الشباب كي تعود مصر إلى مصر بعد أن احتل العدو سيناء بأكملها وأُغلقت قناة السويس التي كانت تمثل الكثير من من دخل مصر وخُربت مدنا بأكملها ، لكن الأكثر إيلاما هذا العدد المهول من الشهداء الذين تساقطوا سواء في هزيمة يونيو أو فترة الإستنزاف أو حرب أكتوبر . أجيال لا تعرف سوى الاحتفالات بنصر اكتوبر 1973 ولم تتزامن أو لم تتوقف أو حتى لو وقفت فهي وقفة عابرة لا ترسل إلى فكرهم مرارة أجيال عاصرت مرار الهزيمة وعانت وعانت وعانت حتى تحولت هذه الهزيمة إلى نصر لولاه لكنا حتى الآن دولة مستعمرة. أجيال لم تشاهد وطنها يهوى إلى ظلام ساحق ، نتيجة فترة من الحكم لا يسعفني القلم لتسميتها ، فترة تشكلت بأشكال لا تبدو ملامحها واضحة كلوحة سريالية ، هذه الفترة التي بدأت بعد ثورة يوليو 1952 التي قام بها مجموعة من الضباط أطلق عليهم الضباط الأحرار ، نعم أنهت عهد الملكية والاحتلال الإنجليزي ، لكن ما حدث بعد ذلك جعل الكثيرين يترحم على عهد الملكية ، بعد أن تحول معظم هؤلاء الضباط إلى وجهة أخرى بعيدة تماما عن مبادئ الثورة الست التي لم يتحقق منها إلا الهامش ، وما تحقق يمكن أن نقول عنه بمنتهى الإريحية ليته ما تحقق مثل قوانين الإصلاح الزراعي التي كانت نكبة على الأرض.أجيال لم تتزامن مع خط سير الحاكم الذي قرر أن يكون زعيما للأمة العربية كلها والثمن كان باهظا على ثروة مصر وشبابها الذين ضاعوا في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل من أجل بلدان هي أول من انقلبت على مصر ، خط سير تاه فيه الحاكم وترك البلد لهؤلاء الضباط الذين تحولوا إلى مناصب شرسة بكل ما تحمله الكلمة من معنى والجيش في قبضة قائد لا يعرف سوى اللهو والنساء وطنطنت الكلمات ، غامر مغامرة لا يغامرها جاهل بألف باء المعارك والحروب فوضع الجيش بأكمله في عراء سيناء ، ووجد فيه العدو لقمة سائغة ابتلعها سهلة دون عناء المضغ ، في عهده تحول الجيش إلى سادة وعبيد ، جنود لا يعرفون حتى كتابة أسمائهم وضباط أكثر ظلما عليهم من الاستعمار ، فتفككت أوصال الجيش وأصبح لا يختلف كثيرا عن المرتزقة لا ولاء له والجنود يسيرون بالخوف حتى من الرتب الصغيرة التي فوقهم مباشرة . أجيال لو تزامنت مع هذه الفترة لشكرت الله ليلا ونهارا على أن البلد خرجت من هزيمتها المرة لأن النصر كان بستر الله أولا وأخيرا ثم بطولة الجيش الذي تمكن في ست سنوات من أن يكون جيشا يمكن أن نسميه بالقوات المسلحة والذي استطاع أن يعبر المانع المائي الرهيب ويقتحم الحصن الناري الذي أُطلق عليه خط بارليف ، بعد أن ضاع الكثير من الشباب في حرب كان يمكن ألا تكون لو لم تحدث هزيمة يونيو 1967 ومن نافل القول أن أعيد ثانية التي كانت بسبب فترة حكم لم تضع عينها على البلد بل توجه كل قادتها إلى مطامع شخصية وأهواء ومكاسب ونتيجة مباشرة لحاكم اتجهت أنظاره للزعامة أكثير من مراقبة البلد من الداخل ، نعم كان نزيها وكاريزميا و بعيدا تماما عن فساد مسؤلي ذلك الوقت لكن نزاهته لم تحمي البلد من فسادهم . أكتب لأجيال لم تكن ولدت في السادس من أكتور عام 1973 ولم يسمعوا أو يروا عظمة ذلك اليوم وقد انطلقت القوات الجوية برئاسة الطيار حسني مبارك الذي تولى الحكم بعد فترة الرئيس السادات ، وانطلقت قوارب النصر لتعبر قناة السويس وتقتحم خط بارليف محطمة خرافة أنه لا يقتحم ، يوم تاريخي في تاريخ مصر ، فيه ارتفعت الهامات بعد طأطأت مرارة الهزيمة ، لكن يبرز السؤال ، كيف تم هذا ، أولا وكما ذكرت قبل ذلك بستر من الله أولا وأخيرا  ، ثم هذه النقلة الشديدة للقوات المسلحة من جيش أغلب جنوده من الفلاحين قد لا يعرفون كيف يصوبون البندقية وضباط رأوا عنجهية قادتهم الباطلة فتقلدوا بهم ، الجيش كما يقولون كان مولدا وصاحبه غائب ، نقلة شديدة من هذا الوضع السئ والمسئ إلى جيش أغلب جنوده من المؤهلات العليا والمتوسطة وضباط احتياط يفهمون واجباتهم وينفذونها بدقة ، القيادات العليا كانت من ضباط لا يعرفون اللهو حتى عندما كانوا في زمن اللهو ، تغيرات شاملة في إسلوب تعامل الضباط مع الجنود المؤهلات وإن كان بعضهم ظل على حاله ، لكن أتحدث عن الأكثرية  ، تدريبات قوية وعلى أعلى مستوى على الأسلحة الحديثة التي استوردت من روسيا أو الأسلحة القديمة التي كانت موجودة وقد علاها الغبار في عهد قيادة المشير ، كل هذا قاد إلى هذا النصر العظيم في السادس من اكتوبر 1973 . وقد يكون أهم ما يجب ذكره على هامش انتصار اكتوبر ، أنه عندما تم وقف الحرب من الجانبين ، كانت هناك مشكلات كبيرة أهمها الثغرة التي حدثت في نطاق الجيش الثالث التي يطول عنها الحديث وعن أسبابها وبعض الاتهامات تبودلت في ذلك الوقت وعن المتسبب فيها وعن كيفية الخروج منها ، وبعض الأرض التي لم تسترد بالحرب ، وبعدها بدأت معركة سياسية قادها الرئيس السادات وانتهت بحكمة لاسترداد ما لم يمكن استرداده بالمعركة إلا منطقة طابا التي استُردت أيضا في عهد الرئيس حسني مبارك سياسيا أيضا . إن أهم ما يمكن تناوله على هامش هذا النصر المجيد ، هو التحركات السياسية التي قادها الرئيس السادات وأكمل بها استرداد الأرض لندخل عهدا من السلام بعد أن أنهكت الحروب والمعارك مصر وشعبها ، قد لا تعرف الأجيال التي لم تزامن هذه الفترة الحرب العشواء التي شنتها الدول العربية على الرئيس السادات وهو يقود معركة السلام واتهامات بالخيانة ، حرب غاشمة وغشيمة من دول كانت دائما تحتمي بمصر وتركت مصر وحدها لتتحمل الدفاع عن القضية الفلسطينية ، رفضوا الحل السياسي الذي كان يمكن أن ينهي كل مشاكل المنطقة العربية لتكون مصر كبش الفداء دائماً وتتحمل كل تبعات المعارك التي تنتهي دائما بالخسارة عليها وهم نائمون في بحيرات العسل . قاطعت الدول العربية مصر وللأسف القيادة الفلسطينية احتفلت باغتيال السادات وماذا كانت النتيجة ، لم نر منذ ذلك اليوم رصاصة واحدة انطلقت لصالح القضية الفلسطينية ، ولم تتقدم القضية الفلسطينية خطوة واحدة بل ازدادت تعقيدا بانقسام فلسطين وبروز حماس الإرهابية على السطح والتي ظهرت وضاعتها في ثورة يناير 2011 ومحاولاتها لهدم مصر ، لكنها عادت إلى جحرها بعد أن كُشفت ألاعيبها الإرهابية . نصر السادس من أكتوبر عام 1973 لم تُكشف كل جوانبه بعد بالرغم من مرور ما يقرب من نصف قرن عليه ، لكن النتيجة النهائية هي عودة الكرامة إلى الجيش المصري  وعودة كل شبرمن أرض مصر ولا يستطيع أحد أن ينكر دور الرئيس السادات في معركته وسلامه وستبقى ذكرى أكتوبر الأقرب إلى القلوب والعقول ، بسبب "استثنائية" الانتصار الذي تحقق ، حيث لم يقتصر نطاقه ، على معجزة العبور، في 6 ساعات، واقتحام "خط بارليف" المنيع، وتقويض أسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، وإنما امتدت حالته "المعجزية"، إلى تغيير مفهوم "الحرب" من مجرد أداة للسيطرة والنفوذ والاستيلاء على مقدرات الدول، لتصبح "طريقا نحو السلام"، حيث كان الطرف المنتصر في المعركة هو من بادر بالسلام الذي تحولت معركته وأقصد معركة السلام  إلى ساحة جديدة لمعركة بدو دماء ، عبر جولات من التفاوض الدبلوماسي، ثم القضائي، لاستعادة كل شبر من أرض مصر، وأخرها طابا، التي عادت إلى الأراضى المصرية ، عبر محكمة العدل الدولية في مارس 1989 . لا يزال الكثير الذي يجب أن تعرفه الأجيال الحديثة عن هذه المعركة الشرسة بكل ما تحمله الكلمة من معنى بداية من هزيمة يونيو 1967 مرورا بحرب الإستنزاف ونهاية بانتصار اكتوبر ، نحاول في كل ذكرى لهذا الانتصار أن نضع بعض النقاط عن هذه المرحلة في تاريخ مصر أمام هذه الأجيال ، حتى لا يظنون أن المكاسب التي حققها الوطن على أنها أتت بسهولة ، بل يجب أن يعرفوا ويقدروا أن دماء الشهداء في تاريخ مصر هي الأساس القوي والراسخ الذي يشيد فوقه الآن  بناء الدولة الحديثة ، تحية إلى كل شهيد وتحية إلى كل أسرة قدمت ابنائها من أجل مصر .