حسني حنا يكتب : مدخل إلى تاريخ الفينيقيين .. الاسم الشعب الأرض

حسني حنا يكتب : مدخل إلى تاريخ الفينيقيين .. الاسم الشعب الأرض
حسني حنا يكتب : مدخل إلى تاريخ الفينيقيين .. الاسم الشعب الأرض
 
 
"تنتمي حضارة الفينيقيين الى حضارات البحر المتوسط، إلى جانب حضارة اليونان والرومان" .. 
 
 
 
الفينيقيون The Phoenicians  - شعباً وحضارة - كانوا وما زالوا يثيرون اهتماماً كبيراً في الغرب، منذ أن كشف الشاعر هوميروس Homer (القرن 8 ق.م ) عن خصائصهم البحرية والتجارية، واتضح أن أبجديات العالم مستمدة منهم ، اصبحوا محط انتباه شديد لا يقل . عما منحته الشعوب والحضارات الأخرى.
غير أن الاهتمام بالفينيقيين لم يرافقه انتباه كاف إلى الخصائص المميزة لثقافتهم ، والوقائع التاريخية والسياسية ، والأدبية والفنية ، التي تسم الحضارة بسماتها، وتحدها بشروطها ،فقد اعتبرت وحدة الفينيقيين واستقلالهم، وارتباطهم فيما بينهم من الأمور المسلم بها.
وقد شجعت الاكتشافات الأثرية، التي جرت في مدينة او غاريت ougarit الساحلية ، في شمال غرب سوريا ، الباحثين على إرجاع الحضارة الفينيقية إلى تاريخ أبعد كثيراً عن طريق نشأتها المتعارف عليه .
وقد أسس الفينيقيون على الساحل السوري الممتد من منطقة كيليكيا Cilicia شمالاً، الى شبه جزيرة سيناء جنوبا، عدداً من ممالك المدن ، وهنا لابد من رسم حدود الزمان والمكان اللذان ينسبان إلى الحضارة التي نحن بصددها ، فقد وجد الفينيقيون أنفسهم محصورين في شريط ضيق من الأرض بين البحر المتوسط، والجبال الساحلية، الموازية للشاطئ الشرقي للبحر المتوسط. حيث كانت تطوقهم دول قوية مثل الآراميين، وجدوا أنفسهم متحدين، ومجبرين في نفس الوقت ، على التوجه إلى البحر، وهذه المغامرة قدر لها أن تكون إحدى خصائصهم المميزة .
 
1/ اسم الفينيقين
 يعرف كل شعب باسمه قبل كل شيء، واهمية أصل الاسم ما تنفك تتعاظم حتى لتجعل من البحث في معناه أمراً ضرورياً . فقد عرف الشعب باسم (فونيكس Phonix ) وعرفت البلاد باسم (فينيقيا Phoenicia ) والتسميتان إغريقيتان ترجعان الى زمن الشاعر هوميروس Home ان لم يكن أقدم من ذلك : أما الفينيقيون فقد كانوا يطلقون على أنفسهم اسم ( الكنعانيين Canaanites) وعلى ارضهم اسم (بلاد كنعان ) وذلك منذ القرن الخامس عشر ق.م . (نقش اكادي على تمثال إدريمي ) المكتشف قرب أنطاكيا، و(مسلة مصرية لأمينوفيس الثاني في ممفيس ) ، وقد ظل هذا الأسم يرد في الوثائق، وان كان متفرقاً على مر العصور ، خصوصاً في الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد ، ولو أن معناها قد استعمل للدلالة. على الشعب والبلاد، حتى قبل مجيء العبرانيين . واسم (بلاد كنعان) يعني ( الأرض المنخفضة) ، لاختلافها عن المرتفعات الساحلية لشرق المتوسط ، كما يعني الصباغ الأرجواني ، ، وهكذا فإن (كنعان) تعني (بلاد الارجوان )! .... 
واننا لنجده في الحقبة الهلنستية من تاريخ سوريا، منقوشاً على عملة معدنية جاء فيها (لاوديسيا في بلاد كنعان)، وكثيراً ما يظهر في المصادر الكلاسيكية لدى الكاتب والمفكر الفينيقي فيلون الجبيلي philo of Byblos ( 64- 141م) و نجده في شمال أفريقيا اسماً يتمسك به المعمرون الذين ينحدرون من أصل فينيقي - كما ذكر القديس أوغسطين - ويذكر العالم سبايزر A.Speiser.E أن النصوص الاكادية المكتشفة ترد فيها كلمة ( كينا خو) بمعنى (الارجوان ) ولهذا يمكننا أن نستنتج ان (كنعان) هو الاصطلاح الأصلي، الذي عرفت به البلاد الفينيقية.
أما ( فينيقيا ) فهو مشتق من اليونانية(Phoinix) أي أحمر أرجواني . ومنذ نحو عام (1200 ق.م ) صارت كلمة (كنعان) مرادفة لكلمة (فينيقيا ) وفي وثائق العهد القديم (التوراة) الأولى، أطلق سم (كنعان) بمعناه الواسع على جميع سكان الساحل السوري على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط. ونحن نجد أن الكثير من مدن هذه المنطقة تحمل أسماء كنعانية مثل : ( أريحا، بيت شان، مجدو عکو. صيدا - صور ، أرواد، أوغاريت و بيروت وغيرها .
و قد ورد ذكر هذه المدن في رسائل تلّ العمارنة بمصر ،التي تعود إلى القرن (14 ق . م ) .
وفي سلسلة الانساب التي اشتمل عليها سفر التكوين ، وسفري يشوع والقضاة.
 
 
2/ الشعب الفينيقي
 اهتم علماء كثيرون - قديماً وحديثاً - بمعرفة أصل الفينيقيين وفصلهم ، وكان من أهمهم المؤريخ والجغرافي اليوناني الشهير هيرودوت Herodotus (القرن الخامس ق.م) الذي يعّين في مبدأ الأمر ، أن موطن الفينيقيين الأصلي هو الساحل الأرتيري.
ويذهب العالم الجغرافي سترابون Strabo ( 63ق.م – 24م) إلى القول بأن أصل الفينيقيين من جنوب بلاد النهرين، ويقول أن منطقة الخليج ، تحتوي على معابد ومدافن ، شبيهة بالمعابد والمدافن الفينيقية في فينيقيا، ويثني العالم والمؤرخ ، الروماني بلا يني pliny (القرن الأول الميلادي) على كلامه.
والحق أن أكثر الفرضيات قبولاً ، مبني على المؤلفين الكلاسيكيين ، حيث أن الكاتب والمؤرخ الفينيقي فيلون الجبيلي Philo of Byblos ( 64- 141م) يقول : " إن الفييقيين أصيلون في موطنهم، وأنه ليس الناس وحدهم ، بل الآلهة والثقافة الانسانية انما مصدرها بلادهم .. وكان فيلون الجبيلي ينقل عن مؤرخ فينيقي آخر ، عاش في القرن السادس قبل الميلاد هو ( سنكونياتن Sanchoniaton) . صاحب كتاب (التاريخ الفينيقي Phoinikike Historia ).
والمؤرخ اللاتيني جوستن ( القرن 2 م) يخبرنا بأن الفينيقيين بعد أن اجلتهم الزلازل عن موطنهم الأصلي . حطوا رحالهم أول الأمر عند البحيرة السورية ( طبريا أو البحر الميت!..) ومن بعد على ساحل البحر المتوسط. 
ومن العلماء الذين اهتموا بمعرفة أصل الفينيقيين العالم (أوتو أيسفلدت ) الذي ناقش الموضوع مطولاً ، وقال أن موطنهم الأصلي هو (فلسطين) حوالي عام (3000 ق.م) الى أن حلوا في مواقعهم التاريخية، التي عرفت في العصور اللاحقة.
ويخصص العالم الفرنسي (جورج كونتينو ) صفحات كثيرة لمهد الفينيقيين ، وهو يرجعهم الى الأزمنة التاريخية الأولى بل إلى ما قبل التاريخ ، ويذكر في كتابه ( الحضارة الفينيقية ) أنهم شعب أصيل في ارضه ، لم يهاجر إليها من أي مكان آخر، ومن الجدير بالذكر هنا أن الدراسات العديدة التي أعقبت نشر النصوص الأوغاريتية المكتشفة ، التي تعود إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، تزودنا بتأييد مجدد للنظريات التي تذهب إلى الأصول الجنوبية للفينيقيين.
إن هذه الطائفة من الروايات والدراسات ، التي تحاول التعرف على أصول الشعب الفينيقي مبنية على افتراضات دون أدلة قاطعة .... ويبدو أن تكون الشعب الفينيقي قد نتج عن تطور تاريخي في المنطقة السورية ، لا عن هجرة شعب جاء من الخارج، ولقد كان من الأمور البالغة الصعوبة أن تزعم أن نزوحاً لأقوام متعددة، جرى على نطاق واسع، كان هو الأصل في تكوين الشعب الفينيقي، وان استقلال الفينيقيين كشعب عرف بهذا الاسم ، قد عينته شروط جغرافية وتاريخية وسياسية خاصة.
 
3/ أرض الفينيقيين
تبدأ أرض الفينيقين من سهل كيليكيا في الشمال ، حيث تقع مدينة (قره تبة) أو ( الثلة السوداء ) وهي مدينة فينيقية هامة ذات حضارة مزدهرة ، تضم العديد من الآثار والكتابات الفينيقية وتمتد أرض الفينيقين جنوباً الى سيناء ، وتحدها شرقاً عدة سلاسل جبلية توازي شاطئ البحر المتوسط الشرقي ، ويحدها غرباً البحر المتوسط. 
والمسافة بين الجبال والبحر ضيقة على الغالب ، فهي ما بين( 50 - 10) كيلومترات ، تتخللها عدة قمم جبلية تدخل في البحر، وبين هذه القمم ، تنفرج أودية صغيرة ، تجري فيها مياه تنحدر من الجبال ، وهي تتألف غالباً من ينابيع تغزر في مواسم المطر، ويجف معظمها في فصل الصيف. 
والمضامين التاريخية التي ينطوي عليها هذا الموقع الجغرافي واضحة في المكان الأول ، إذ أن الأرض كلها منحصرة بين الجيال والبحر ، وقد نتج عن ذلك انفصال تاريخي وجغرافي عن الداخل . غالباً ما كان يعمقه وصول شعوب ودول قوية . وذلك نحو عام (1200 ق.م) ، وفي المكان الثاني كانت التجزئة الداخلية للمنطقة ، عائقاً دون قيام وحدة سياسية ، بل ودون نشوء وعي وحدوي ، مما نجم عنه قيام ( دويلات المدن) ، وفي المكان الثالث ، كان البحر المتوسط ، هو الطريق الطبيعية الوحيدة المتاحة أمام الفينيقيين للامتداد والتوسع . وقد كان الفينيقيون أول أمة بحرية في العالم ، تتاجر مع شعوب البحر المتوسط، وتزرع المدن والمستوطنات التجارية على شواطئه.
وكان للمدن الفينيقية طبوغرافيتها المميزة غالباً ، حيث كانت تشيّد في العادة على مرتفعات قرب خلجان طبيعية ، يكون لها مرفآن أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب ، يستخدمان تبعاً للرياح والفصول، كما اعتمدوا على الجزر الصغيرة التي كانوا يحصنونها.
وقد امتد توسع الفينيقين غرباً إلى ماوراء أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق) حيث وصلت سفنهم إلى بريطانيا من أجل جلب القصدير لعمل السبائك البرونزية . وهناك من المؤرخين من يعتقد أن التجار الفينيقيين وصلوا إلى القارة الأمريكية. وقد تّم العثور على نقش فينيقي في البرازيل يعود الى القرن السادس قبل الميلاد.
وكان المناخ في فينيقيا قديما مثل ما هو عليه اليوم تقريباً ، كما كانت أرض الفينقيين ، من أخصب بلدان الشرقية الأدنى، حيث كانت الزراعة نامية ، على الرغم من محدودية الأرض. وكانت أعظم ثروات فينيقيا بحسب النصوص التاريخية - هي أشجار الغابات ، حيث كان يكثر السرو والصنوبر والسنديان والنخيل والزيتون والصندل وغيرها، وفوق كل شيء شجر الأرز المشهور ، الذي كان مرغوباً في بلاد النهرين ومصر، وهو معروف بصلابته ورائحته الزكية. وقد ورد ذكر أشجار الأرز في الكتاب المقدس ( 77 مرة) وفي سطر أشعياء: "مجد لبنان أعطي له" ( للأرز ) وذكر في التوراة باسم ( أرز الرب ). 
اما حيوانات فينيقيا القديمة ، فقد كان منها النمور والدببة والخنازير والأرانب البرية والثعالب ، إضافة إلى الحيوانات الأهلية المعروفة. وكانت هناك وفرة من السمك الذي يصيدونه من البحر ،كما كانو يصطادون نوعاً من الأصداف البحرية هو ( الموركس Murex ) الذي كانوا يستخرجون منه الصباغ الأحمر الارجواني. واستخدموا الحجارة الكلسية والرخام في أعمال البناء ، والرمل الناعم المتوفر في صناعة الزجاج.
 وعموماً... كانت أرض فينيقيا تمّد السكان بموارد ممتازة تفيدهم في اعمالهم التجاریة، حیت کانت تجارتهم ناشطة مع البلدان الواقعة على شواطئ البحر المتوسط ....
وكان الفينيقيون من أشهر تجار العالم القديم ، وأكثرهم مقدرة ونشاطاً، حتى أنه يمكن القول أن البحر المتوسط في ذلك الحين أصبح بحيرة فينيقية.