هدى حجاجى أحمد تكتب: "ضحكات فى اللامعنى" الجزء الثانى

هدى حجاجى أحمد تكتب: "ضحكات فى اللامعنى" الجزء الثانى
هدى حجاجى أحمد تكتب: "ضحكات فى اللامعنى" الجزء الثانى

فقدت صديقتى فى موجة الحذر التى أعقبتها ...انقبضت ثم جثمت على صدرى كتلة حزن عميق كأنها دانة مدفع ... رأيت الشارع عند نهايته وكأنهيقف على قدم واحدة وخيل الى أن الناس مسامير مثبتة فى ظهره لم الحق ألتقط انفاسى واذا بى أصعد الى الاتوبيس المار أمامى ونفسك تكاد تميز غيظا حين شاهدت شايا مندفعا فى سرعة جنونية نحو سيارة الأتوبيس التى دخلت لتوها فى موقفها بالمحطة , اندفع الشاب بكل قوته دافعا رجلا عجوزا كان يتجه الى نفس العربة كان هذا هو الاتوبيس الذى ينتظره ((ياسين)) لذلك تحرك مسرعا تجاه الشاب حاجزا اياه فى عنف حتى يمر الرجل المسنويصعد ,, نظر إليه الشاب ماسحا ياسين من أسفل الى أعلى وكأنه كان يتقصى داخله فى احتقار مستفز تصدى ياسين لنظرات الشاب ينظر أكثر احتقارا , حرك الشاب شفتيه وأخرج كلمات مضغومة تجاوز ياسين الكلمات والموقف صعد عنوة قبل الشاب الساخط واحتل واقفا بالكاد مكانا خلف السائق لحق به الشاب المندفع وتكاد عيناه بنظرة نارية مصوبة الى يس ان تحرقه ,, فرد يس الجريدة وراح يتصفحها غير آبه لنظرات الشاب المستفزة امتلأت سيارة الأتوبيس عن آخرها الجو خانق اوشك الركاب أن يموتوا اختناقا لقلة الهواء والأوكسجين.....صعدت امرأة ممتلئة تتفصد عرقا ,, لاهثة الأنفاس تنحشر بعد نضال مستميت تحتل مكانا وسط العلبة ,, يرمقها يسفى اشفاق يراها وقد تصببت عرقا ,,تستجلب الهواء فى صعوبة تكاد أن تلفظ أنفاسها الأخيرة ..ينزل يس من مكانه المرتفع خلف السائق يفسح لها حتى تسند بظهرها فوق الحاجز الزجاجى الجو داخل الاتوبيس خانق رائحة العرق الكريهة تتصاعد من كل اتجاه تحاصره ,, تزكم انفه ..مازال الركاب يتوافدون على العربة ينحشرونفى مقدرة خرافية ((ينبرمون ويتبططون )) حتى يتراصوا بين الاجساد المتلاصقة ظهرا بظهر وكتفا بكتف الأعناق مشرئبة تستطيع وصول سيارة آخرى يضيع الأمل فى نزول أحد بعد وصول المحصل ,, المحصل ضيق الخلق جهم الكلمات جهم المنظر ,, يلقي الكلمات فى عصبية وكأنه أستاذ غاضب .

- أنا مرارتى مفقوعة يا حضرات ) كل من عنده دم يحضر فى يده ثمن التذكرة فكة .... من معه اشتراك أو كارنيه أن كان مصلحة أو شرطة يبرزه . يصدر الامر الى السائق فى صلف بأن يغلق الباب الأمامى السائق ينصاع لأمره على مضض من عنجهية الكمسارى يصرخ فى عصبية ناهيا اياه عنها ,, المحصل لا يأبه به يغتاظ السائق ويقف خلف مقود السيارة محتدا ,, يسارع أهل الخير بالتدخل لأحتواء الموقف يعاود السائق الجلوس خلف مقعد السيارة ممسكا فى عصبية . ضاغما بعض الكلمات ,, ولاعنا الزمن الأغبر .. يمضغ الكمسارى الكلمات اكرامالخاطر الرجل المسن الذى يطيب خاطره يبدأ المحصل فى الخوض بين الاجساد صارخا التذاكر فى عصيبة وتكبر يس يسرع بدس يده فى جيبه باحثا عن قطعة فضية فئة الجنيه كان قد أخذها من محصل سابق يقلب جيبه .. تصطدم أصابعه بأشياء غريبة يوقن أنه لم يضعها مطلقا فى جيب سترته طيلة عمره فهو لم يضع ليمونا مطلقا فى جيب سترته يوما , يقلب بأصابعه فى الجيب ثانية يعثر على منديل من القماش يستذكر دوما انه يستعمل المناديل الورقية يدهش يقلب أصابعه فى الجيب فتصطدم أصابعه بمسبحة ملساء يقرر أن ينظر يصوب عينيه على الجيب يصفق حين يرى يده فى جيب سترة الواقف بجواره !! تسرى رعدة فى جسده يتفصد عرقا , ضربات قلبه تزداد , رأسه يدور ماذا يصنع .. تتواكب أمام عينيه كل ما يمكن أن يحدث ازاء تلك السقطة ,, يجمع شجاعته ويحاول أن يسحب يده بهدوء حتى لا يشعر صاحب الجيب المقتحم يحاول يستجمع أعصابه وقواه وفكره يركز ثم يحاول ,, صوت المحصل يحاصره طالبا ثمن التذكرة يبتسم عنوة ويحاول محاولاته تأتى بنتيجة مطمئنة فقد استطاع أن يرفع يده فى نعومة وفى بطء قليلا الى أعلى دون ان يشعر بذلك صاحبالجيب المقتحم .. فجأة فرملة قوية للسيارة توشك ان تلقى بالجميع يرفع صاحب السترة ذراعه ممسكا بالحاجز كما فعل الجميع خشية السقوط ما عدا يس الذى ازدادت ضربات قلبه وتفصد عرقا حين سقطت يده ثانية بفعل هذه الصدمة مباغتة فكر ثانية ماذا لو ماذا لو أنهم اكتشفوا هذا الموقف ....؟ أيصبح لصا .؟ ارتعد حين تبدى له الموقف فى مخيلته ,, مايزال يحاول أن يسحب يده فى نعومة ثانية ثم تحررت نهائيا من تلك التهمة القذرة . يضم قبضته مكورا اياها ويرفعها عاليا وقد واجه المحصل . نهره المحصل طالبا منه فى غضب ثمن التذكرة يسرع ياسين واضعا يده فى جيبه متوخيا الحرص هذه المرة .. لم يخطئ الجيب أخرج قطعة العملة الفضية ودفع بها الى المحصل الذى أعطاه التذكرة متفحصا اياه فى تساؤل , فأنطلق يسفى الضحك . تعجب المحصل وظنه مجنونا , استثمر ياسين كلمة المحصل (ربنا هو الشافى ) فأنطلق يس ضاحكا فى عصبية ,, كل النظرات تتجه إليه تحتويه يستشعر الاشفاق والريبة فى عيونهم , يتراجع صاحب الجيب المقتحم . صرخت امرأة عجوز تجلس على المقعد المجاور لياسين فى وفقته نهضت مذعورة وراحت تسبح بذراعيها بين الأجساد المتراصة سعيا للهرب مولولة ( مجنون .. يادى الداهية ) !! نظر يس لها فى غرابة ,, أسرع بأحتلال مقعدها جلس وهو ما يزال ينظر اليها وقد مط شفتيه فى غرابة . نظر حوله ببطء وتفحص لكل الجالسين والواقفين ,, انكمش الشاب الذى جلس يس بجواره وانصرف فى خوف بنظراته عبر النافذة .. سيارة الاتوبيس منطلقة فوق كوبرى أكتوبر العلوى . رفع يس كتفيه فى غير لا مبالاة وراح ينظر مع الشاب من نافذة السيارة ,, فلم لم يجد ما يستحق الاهتمام , اعاد النظر الى داخل الأتوبيس . راح يرمق الكل بنظرات الريبة والشك يفرد قدميه يخلع حذائه تتخلل نسمة ساخنة من الهواء اصابع قدميه يستشعر الراحة . ينهض الشاب الجالس بجوار النافذة وقد سد أنفه بأصبعيه حتى لا يشم رائحة العرق العفن..! نهض فى عصبية افسح يس للشاب حتى يعبر وهو لا يدرى لماذا ينظر الكل اليه فى تعجب ,, ولما كل هذا الرعب فى العيون !! رفع يده الى رأسه فتراجع كل من يجلس خلفه أو يقف حوله وتعالت صرخات النسوة , فرفع كلتا يديه فوق رأسه ثم عدل سرواله وفك الحزام وأعاد القميص الى موضعه السابق وأحكم الحزام مرة أخرى ..أخرج منديلا ورقيا واستعمله ثم كوره وألقي به من نافذة السيارة ,, جال ببصره حرصا منه ألا يكون قد تسبب فى ايذاء مشاعر أحد بجواره أو أمامه أو خلفه ,, فوجد أن الكل قد ابتعد عنه وبشكل مبالغ فيه حتى أنه قد صار وحيدا على الكرسى . والكرسى الذى خلفه قد أخلى من جالسيه والذى أمامه ايضا ..والأجساد تكونت عند بابى السيارة انتظارا للهروب ,, لم يكن يدرى أنه هو السبب المباشر وراء كل هذا الرعب الذى حدث . وتيقن ان الجميع يظن به الجنون ,,يضحك من سذاجة الجميع ويتنقل بين المقاعد ويجلس بجانب نافذة مفتوحة , يطل منها يستنشق الهواء من فتحتى أنفه فى صوت مسموع ,, الهواء القادم فىأنطلاقة بلا حدود ينعشه. الأتوبيس يسير ما يزال الكوبرى العلوى أمامه ممتدا .

يظهر النيل بلمعان مياهه تنعكس اشعته فى عينيه ينظر ويزداد ضحكه عندما يلقى نظرة الى أولئك المتكومينفى رعب عند الابواب يضحك اكثر عندما يلمح ومن كل الأتوبيس خوفا من ان يتطور جنونه فيصيبهم بالأذى يضحك أكثر حين يلمح دمعة فى عين سيدة جميلة .. يس لا يتوقف عن الضحك ينكمش الكل خوفا ورعبا يتوقف عن الضحك ثانية . ينصرف للنظر الى النيل , ترقب عيناه مياه النيل مرة اخرى يظهر هذه المرة أمام عينيه مركب صغير يقف فوقها صياد صغير وهزيل . يلقى بالشباك فى وهن وترقب يتابع المنظر يتذكر , يتنهد .. هنا كان يمشى معها ذات يوم فى هذا المكان وكثيرا ما اسقتل معها مركبا وصار يجدف . تغضب ويجدف يحكى ويجدف , يحلم ويجدف , تضحك ويجدف , تغضب ويجدف لم تعد تسير معه الآن , يتذكر تلك الأغنية الرقيقة التى كانت فى لحظات سعادتها تغنيها همسا وتبادله النظرات ( مهر المحبة قلة وحصيرة ) يتذكر كيف أجهضت احلامه وسرقت الوظيفة شبابه وعمره ,, ولم يكن ميراثه من تلك المعاناة سوى الندم والحسرة .. يتذكر كل هذا الحب الرائع الذى الذى كان يضم قلبيهما ذات يوم , يتغنى بالأغنية ,, يشعل لفافة تبغ .. يتامل دوامات الدخان الدائرية مع حركة الهواء .. يتجسد وجه محبوبته وسط الدوامة.. "عبير "كيف هى الان ؟ أين راحت , كيف مضت من حياته هكذا فى بساطة وكيف اخفق من يومها .. يوم ان قالت : ان لم تقدم لى الشبكة اليوم ... فغدا يكون عقد قرآنى على عريس فى سعة العيش .

أخرج صوتا منفرا حين تذكر كلماتها تلك اخرج أخرج صوتا اعلى من ذى قبل وتجسدت كلمة (طظ) بعد أن امتلأ بها فمه فألقى بها لافظا اياها بكل قوة ,, نهض فى عصبية , ألقى بلفافة تبغه من النافذة لاعنا الزمن والأيام وضيق ذات اليد , لعن الزمالة والصداقة والقرابة فلم يتحقق من ورائهم حلمه الناس يمرمقونه فى رعب شديد , الكل يبتعد عنه مشيحا متلاشيا , سقط بين حصار عيونهم عاد الى نفسه أستشعر خطورة اللحظة على نفسه تحرك فى عصبية , لم صعوبة فى السير بين الأجساد المتراصة , , توقف الاتوبيس فى المحطة نزل .. مايزال يلعن الصداقة والايام والكل يفسح له الطريق فى رعب يتجاوز سلم الأتوبيس ويقف على الأرض وسط الطين اللزج , يبصق ... تحد منه التفاة فيرى كل من فى الاتوبيس قد تزاحم فى النوافذ وراح يرمقه ويضحك ..الكل يضحك , تصاعدت الضحكات وملأت العربة بعد ان راوا ياسين وقد غاصت قدماه فى الطين . كل الوجوه تضحك كل الاصابع تشير اليه أصحاب كل تلك الأصابع المصوبة اليه يضحكون .. ينظر اليهم هو الآخر حين خيل اليه أنهم حيوانات خلف الحواجز الزجاجية , حيوانات تضحك , يشير تجاههم ويضحك يضرب الأرض بقدميه من شدة الضحك ,, يتطاير الوحل على زجاج النوافذ , على وجوههم يضحكون ويضحك يسير , والكمسارى يطل عليه ويضحك .. السائق يضحك .. المارة يضحكون .. تبتلعه الظلمة وهو يضحك !!.