إدوارد فيلبس جرجس يكتب: هيامُ الأرواح

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: هيامُ الأرواح
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: هيامُ الأرواح

استيقظ كمال على رنين المنبه المزعج ، نومه الثقيل كالجبل ، لا يصلح معه سوى هذا الرنين ، دقائق بعدها وفُتح باب الغرفة ، دلفت منه والدته العجوز وهى تحمل في يدها كوب الشاي الداكن اللون . أزاحت أمه الستار لتتسلل الخيوط ذهبية ، معلنة عن يوم جميل ، بدا على وجه العجوز ابتسامة متسامحة مع كل شيء في الحياة ، قالت وهي تدقق النظر في وجه ابنها :

_ اليوم سأقرأ لك وجهك بدلاً من الفنجان .. فمك يعلن عن ابتسامة رضا ،  تقول إنك استمتعت بنوم خال من القلق !

ضحك كمال وهو يقبل يدها قائلا :

_ هل تعلمين يا أمي أن الأحلام الجميلة التي يراها الإنسان في نومه ، لها تأثير رائع حتى بعد استيقاظه .

قالت الأم وهي تجلس إلى جواره :

_ خبرني عن حلمك الذي ترك على وجهك بساط من السعادة  ؟

قال كمال وقسمات وجهه تعلن عن نشوة حقيقية :

_ آه يا أمي .. لا أصدق أنه مجرد حلم .. عندما دق جرس المنبه وفتحت عيني على جدران الغرفة ، لم أصدق أنني لم أكن في هذه الحديقة الرائعة .

_ أكمل يا ولدي فلا اعتقد أن حلمك انتهي .

_ آه يا أمي .. إنها بداية الحلم وليس نهايته.. كنت أسير بمفردي بين صفين من الأشجار ، تداعب أُذنيّ زقزقة العصافير .. مددت يدي لأقطف زهرة حمراء ،  تراجعت واكتفيت بأن اقرب أنفي منها وأستنشق عطرها المُسكر .. أكملت سيري وأنا سعيد بأنني تغلبت على ضعف البشر ، ولم أحرم هذه الوردة من حياتها القصيرة . فجأة من بين الأشجار خرجت آلاف الورود ، أكاد أسمع دقات قلبي في أُذني ، وهي تتشكل أمامي في سرعة خاطفة ، لتصبح جمالاً لم تقع عليه عيني ولم أسمع عنه من قبل ، فتاة يا أمي جمعت بين حرارة البشر ونقاء الملائكة،  رأيت حبات اللؤلؤ في فمها وهي تقدم لي أروع ابتسامة منذ بدء الخليقة ، شعرت بأنني أسبح داخل عينيها بالرغم من المسافة التي تفصلني عنها . أشارت بيدها لكي أقترب منها ، سرت نحوها وكأنني أسير فوق السحاب ، اقتربت منها وهي لا تزال تمد لي يدها . عندما هممت بأن أغلق أصابعي علي أصابعها ، سمعت خرير الجداول مختلط بألحان السماء في ضحكتها ، كدت أفقد صوابي وأنا أراها ترتفع لأعلى ، وصوت عذب يناديني باسمي .. لو أردتني إلحق بي .. طارت أمام عيني واختفت بين طيات السحاب .. حتى الآن لا أصدق أنه حلم يا أمي .. وهل توجد فتاة بمثل هذا الجمال في العالم كله؟!

_ بنت الحلال تناديك يا كمال .. أنت الآن في التاسعة والعشرين، ماذا تنتظر!!

_ وماذا تفعل بنت الحلال بمهندس لا يكاد مرتبه يفي بالتزاماته الشخصية !! لولاك ما استطعت أن أتولى أعباء نفسي .

خبأت الأم سحابة حزن طافت بعينيها ، ربتت فوق يده ضاحكة وهي تقول :

_ إنهض أيها الكسول لتذهب إلى عملك ،لا تشغل فكرك ، حينما يحين النصيب ستجدها واقفة أمامك بإذن الله .

******

نادت الأم وهي تمسك بيد كوب الشاي الداكن والأخرى تزيح الستارة :

_كمال.. هذه هي المرة الأولي التي لا يوقظك المنبه ، رنينه أيقظ سكان البيت .

فتح كمال عينيه وقال بنبرة حزينة :

_ حرام عليك يا أمي .. ما الذي اقترفتهُ حتى تنتزعيني من سعادة كنت على وشك اقتطافها .

_ لا تقل إنه حلم كل يوم .. أسبوع وأنت تعيد علىَّ كل يوم نفس الحلم ..

_ لا يا أمي .. اليوم كنت على وشك أن أحقق شيئاً لم أتمكن من تحقيقه في المرات السابقة .. كل يوم تتركني وتطير وأنا أموت شوقاً لمجرد أن تتشابك أصابعي مع أصابعها ، اليوم لم يكن مثل كل يوم .. انتظرتني.. اقتربت منها .. صدقيني يا أمي شعرت بأنفاسها تحمل نفس رائحة الوردة الحمراء التي تراجعت عن قطفها . خجلت عيني أمام ضياء وجهها ، نظرت في عيني مؤنبة وقالت .. هل لم تتعلم الطيران حتى الآن .. حاول فلن تلحق بي إلا إذا طرت في السماء .. قلت لها أنت حقيقة أم خيال .. قالت ضمني إليك وأنت تعرف .. ابتسمت وقالت هل صدقت أني حقيقة لا خيال .. أمسكت بها كطفل يخشى أن يفقد أمه في زحام السوق .. استعطفتها أن تخبرني أين أجدها .. انفرجت شفتاها لتجيبني ، أيقظني نداؤك وضاع مني طريقها .

_ حلمك اليومي يحيرني يا كمال ، حتى أم عادل المشهود لها بقراءة الفنجان ، دققت النظر في فنجانك ، ولم تزد عن قولها بأن نصيباً ينتظرك ، لكن الفنجان لم ينطق بأكثر من هذا .

******

أغمض كمال عينيه ، مسنداً رأسه علي ظهر مقعده الطائر فوق السحاب. يستعيد ذكرياته الأليمة في الفترة الأخيرة. ذات يوم .. علا صوت المنبه برنينه المزعج ، فتح عينيه وهو لا يزال يجتر حلمه الجميل الذي لم ينقطع ، انتظر الابتسامة المتسامحة كي تطل عليه تحمل كوب الشاي ، طال انتظاره ، نادى بصوت يشوبه القلق .. هل نسيت ابنك اليوم يا أم كمال ؟!.. أين أنت يا ست الحبايب .. قفز من الفراش يعدو من باب الغرفة عاري القدمين والرجفة تسبقه ، لا صوت في المطبخ ، طرق باب غرفتها ، اندفع للداخل ، راقدة في فراشها والابتسامة المتسامحة مع كل شيء مفروشة فوق شفتيها .. أم كمال .. أم كمال .. رحلت أم كمال في هدوء الملائكة . ألقت الدنيا بعباءتها السوداء وغيومها القاتمة على كل شيء حوله ، غادرة يا دنيا.. رحلت أمك لتتقابل مع أبيك وتركاك وحيدا في الحياة . أخواتك الثلاث منشغلات بأزواجهن وأولادهن في بلاد أخرى ، أنفاس أمك التي كانت تعينك على المضي في حياة لا أمل فيها توقفت . ماذا تنتظر..!! منذ ثلاثة أشهر جاءك خطاب يفيد قبولك للهجرة لأمريكا ، فلتمض في إنهاء الإجراءات قدما ، قد تجد هناك ما يغسل بعض الشيء أحزانك .. هل ستأتي إلىّ أنيسة أحلامي في مكاني الجديد ؟ لست أعلم ، لكن أين هي ؟ هل من المعقول أن يكون مجرد حلم ! . منظر الطائرة فوق السحاب ذكره بها ، وهي تغرد بضحكتها وتطير قائلة طر والحق بي . انتهى يا فتاتي كل شيء ، أمي فسرت الحلم بأنك بنت الحلال تناديني ، رحلت أمي عن الحياة ، ورحلت أنا عن بلدي ، ولم تأتِ يا بنت الحلال .

 

******

عليك أن تتدبر أمرك يا كمال .. أنت في نيويورك العظيمة.. مركز التجارة والمال .. لا بد أن تجد أولا العمل .. أي عمل في البداية .. ثم تتدبر خطواتك لتعمل بشهادتك كمهندس ، نيويورك شهيتها قوية ، تبتلع الدولارات كالفستق المقشور .. الأفكار تزاحم بعضها في رأسه وهو يقطع الشوارع ، قبل أن يتمكن من رؤية السيارة التي صرخت مكابحها كانت قد ارتطمت به وغام كل شيء حوله .

 

******

فتح عينيه ، أعادهما سريعا حتى لا يهرب حلمه ، عادت فتاته لزيارته بعد انقطاع ، فليتمتع ببقية حلمه قبل أن تدخل أمه تحمل كوب الشاي . ما هذه التخاريف ، ليس ما أراه حلماً ، أمي تركت الحياة ورحلت، والحجرة ليست حجرتي ، قفز عقله كجواد جامح ، يا ألهي ، أنها هي ، أقسم إنها هي ، نفس الابتسامة المزغردة ، حاول أن يعتدل في جلسته ، شعر ببعض الألم في ساقه ، نسي أنه في أمريكا وبصوت كدقات الطبول أخذ يردد ..أنت .. أقسم أنك أنت ، زادت الابتسامة فوق وجهها لتكشف عن حبات اللؤلؤ التي طالما رآها في أحلامه ، تذكر أنه في أمريكا ، قبل أن ينطق بالإنجليزية زادت دهشته وهي تسأله بنفس لغته ، بصوت يشبه خرير الجداول المختلط بألحان السماء.

_ ماذا تقصد بقولك أنت .

نظر إليها وهو يضرب جبهته بيده ليتأكد من يقظته قائلا  :

_ زيارتك لي لم تنقطع وأنا في مصر ، حولتِ أحلامي إلى جنة أخطر فيها.. كنت استعجل ساعات النهار ليأتي الليل لأنام وكأني على موعد معك .

_ هل أنت من مصر ؟.. ما اسمك .. سألت بلهفة وهي تضع يدها بتلقائية فوق يده .

_ نعم من مصر واسمي كمال .. أجاب وهو يضع يده الثانية فوق يدها

_ كمال نواره .. أليس كذلك.. قالت ويدها تعتصر يده .

_ نعم .. نعم .. أجاب كمال وهو يقفز معتدلا في جلسته غير مبال لألم قدمه .

_ ملامحك لم تغيرها السنين .. ألا تذكر ليلي فهمي والمنزل المقابل لكم في الإسكندرية .

عاد كمال لنفس رقدته حاجبا وجهه بكفيه ، يهز رأسه قائلا بصوت  يتسرب من بين أصابعه كالتائه الذي ضل طريقه .

_ لا أصدق .. لا أصدق .. الأمر لن يخرج عن شيئين .. إما أن يكون جنونا حادا غزا عقلي.. أو أكون في حلم طويل وسأرفع كفي عن وجهي الآن لأجد نفسي في غرفتي بمنزلنا القديم بمصر .

قالت ليلى وهي ترفع برِقة كفيه عن وجهه :

_ أخطأت في الاثنين .. وما يحدث الآن حقيقة .

_ أعذريني يا ليلي ، خيال قصصي بارع قد يعجز عن كتابة ما أراه الآن حقيقة أمامي .

_ أعطني خمس دقائق يا كمال ، أُهاتف أمي حتى لا تتوتر أعصابها كالعادة إذا تأخرت عن موعد عودتي .. كان من المفروض أن أكون بالمنزل منذ ساعتين ، أعمل طبيبة هنا وقضيت طوال الليل بالمستشفي ، عندما أحضرتك سيارة الإسعاف كنت علي وشك الانتهاء من نوبتي. لست أعلم ما الذي دفعني للمكوث ، بالرغم من وجود زميلي الطبيب الذي سيتسلم العمل مني.

قال كمال ووجهه يتأرجح بين الحلم والعلم :

_ لا تتساءلي عن سبب مكوثك ، هناك تساؤلات كثيرة أكثر غموضا .

قالت ليلى وهي تضع وسادة خلف ظهره :

_ لن أتركك حتى نزيل كل هذا الغموض ، سأعد مقعدين في حديقة المستشفى ، لن تجد صعوبة في التحرك وأنت تتوكأ على عكاز .

_ عودي ولا تطيري في السحاب كما كنت تفعلين في الأحلام ، تعلمت الطيران كما طلبت مني ، وطرت إليك من مصر لأمريكا .

 

******

قالت ليلى ضاحكة وهي جالسة أمام كمال في حديقة المستشفى :

_ ألن تطلق كفي حتى أتمكن من احتساء كوب العصير.

_ دعيني أتلمس حرارتها حتى لا تنازعني الشكوك بأني واهم ، وأن ما يحدث الآن ليس سوى خيال سكن رأسي نتيجة الحادث .

_ أعدك بأنني  سأكون طبيبتك حتى نزيل الرباط عن قدمك ، ونغادر المستشفى سويا .

_ عندما هاجرتم لأمريكا منذ خمسة عشر عاما كنت أنت في الثامنة وأنا في الثانية عشر هل تتذكرينني جيدا .

_ أتذكر كل شيء كما لو كان بالأمس وعندما دققت النظر في ملامحك ، لم أجد أي تغيير يذكر بها سوى الحجم وهذا الشارب الوسيم .

_ أما أنت فسبحان الله .. كيف تحولت الطفلة الصغيرة لفتاة أنانية ، استأثرت بجمال حواء كله  ؟ هل تتذكرين يوم ضللت الطريق وكاد الجزع أن يقتل أسرتك.

_ نعم أتذكر .. وأنت الذي وجدتني أمام واجهة لمحل يبيع الحلوى ، أمسكت بيدي واشتريت لي بكل مصروفك الحلوى التي كنت أحبها ثم أعدتني للمنزل .

_ كان هذا قبل سفركم بفترة قليلة ، شعرت يومها بأنني فقدت نفسي  ، وعندما رأيتك أمام واجهة المحل حضنتك وقبلتك وأنا أشعر بأن أطرافي المشلولة قد عادت إليها الحياة .

قالت ليلى وهي تطلق زفرة ألم :

_ أنت الذي أعدت لي الحياة الآن ، تاهت نظراتها في فضاء الغرفة لثوانً.. ثم أكملت.. منذ عام تقريبا توهمت أنني أعيش قصة حب اندفعت إليها بكل جوارحي ، كانت هذه أول تجربة لي ، وقتي كان مشغولا في دراسة الطب ، شاءت الظروف أن التقي بشخص أسر في أذني بكلام تفتح له قلبي ، كزهرة أغراها دفء الربيع أن تكشف عن مكنون قلبها ، وثقت به، كنت أنظر إلي الغد بمنظار الشوق حيث سيجمعنا رباط الزوجية . لم تمض ثلاثة أشهر على لقائي به حتى تكشفت أمامي كل تفاهاته ، تحري عنه والدي فاكتشف أنه غارق في مستنقع من المخدرات والقمار، وأنه ينصب شباكه دائما للإيقاع بالفتيات وجرهن إلي أوكار الرذيلة ، لطف الله فضحه قبل أن يتمكن مني ، أصبت بصدمة شديدة كادت تودي بأعصابي ، لم يخرجني منها سوى حنان غمرني به أبي وأمي ، وما ربياني عليه من إيمان وتمسك بعاداتنا وتقاليدنا . بعدها تمنيت لو كنا لم نترك بلدنا ، عادت إلىّ ذكريات الطفولة كلها .. تذكرتك وأخرجت ألبوم الصور الذي كنا نحتفظ به ، وجدت لك صوراً كثيرة وأنت تقف بجانبي ونحن نحتفل بعيد ميلادي ، كثير من الليالي كنت تغمض عيني تاركة الألبوم فوق الوسادة ، أتخيل بأنني لم أسافر وبأنني أعيش معك قصة حب كالتي نراها في الأفلام . ابن الجيران يحب بنت الجيران منذ الطفولة وينتهي الحب بالنهاية السعيدة ، عندما كنت أصل إلي هذه المرحلة من التفكير وأتخيل نفسي بفستان الزفاف بجانبك ، كان يداهمني شعور باليأس وأنا أعلم استحالة ما أفكر فيه ، لا أعلم حتى عنوانك في مصر . عندما زرت الوطن  لأول مرة كان قد مضي علي سفرنا ستة أعوام  ، أي كنت أنا في الرابعة عشر وأنت المفروض أن تكون في الثامنة عشر ، أحضرت لك معي هدية تتناسب مع عمرك ، لكن للأسف علمنا من الجيران أن والدك انتقل من الإسكندرية للقاهرة ولم تتركوا عنوانكم الجديد . عدت وأنا أحمل هديتك ، لن أكون كاذبة إذا قلت لك بأنني كنت أغمض عيني كل ليلة على هذه الذكريات .

سأل كمال :

_ هل حدث ما تقولينه منذ حوالي ثمانية أشهر تقريبا ؟!

_ بالضبط كان منذ حوالي ثمانية أشهر .. كيف عرفت ؟!

_ منذ هذا الوقت بدأت تقريبا زياراتك لي في الحلم ..هل تعلمين أنك حضرت لتعزيني في أمي وأنت ترتدين ثياب الحداد .

_ هل هذا كان منذ حوالي ثلاثة أشهر .

_ نعم بالضبط .

_ في ليلة منذ حوالي ثلاثة أشهر كنت أتصفح الألبوم ، رأيت صورة لوالدتك وأنت بجانبها في عرس إحدى أخواتك وأمي بجانبكما  .. سألت أمي هل من الممكن أن تكون أمك تعيش حتى الآن ، أجابتني بأن الأعمار بيد الله وبأنها مثال في الطيبة والوداعة .. بدون أن أدري أغمضت عيني وأنا أطلب لها الرحمة  .

سأل كمال وهو يقبل يدها :

_ هل لديك تفسير لكل ما حدث يا ليلي .

قالت ليلى وهي تغرد بضحكتها :

_  لنقل إنه هيامُ الأرواح .. لكن الأحلام انتهت وما نحن فيه الآن حقيقة .. فلا تتعب رأسك .. وإلا سأطير من أمامك ولن تستطيع اللحاق بي والرباط يقيد قدمك .

 أمسك كمال بيديها سريعا وهو يقول ضاحكاً :

_ لن أطلقك من يدي وكفاني ثمانية أشهر في كل حلم  يطير قلبي خلفك.

 

*********************

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com