بهجت العبيدي يكتب: الانتماء للأوطان غريزة .. أُدفن في ثراه

بهجت العبيدي يكتب: الانتماء للأوطان غريزة .. أُدفن في ثراه
بهجت العبيدي يكتب:  الانتماء للأوطان غريزة .. أُدفن في ثراه

الانتماء للوطن ليس كلمة تلقى، ولا نشيد يعزف، ولا حكايات تُقص، ولكنه حالة مستمرة في عشق ثرى الوطن، حالة تجعل كل ما تقوم به، أو تؤديه، مهما كان صغيرا، يصدر عنك وفي حدقة العين يرفرف علم البلاد، وتقوم بأدائه، وفي مخيلتك خريطة الوطن وحدوده، وتغعله وأنت تستشعر عظمة وجلال الوطن.

إن الدفاع عن الأرض قدس الأقداس عند الجيوش والقادة والزعماء والشعوب، وعدم التفريط في ذرة تراب واحدة هي المبدأ الذي يعتنقه كل إنسان وطني في اي بلد من البلدان، وأي أمة من الأمم، ذلك أن حدود الأرض التي تملكها دولة من الدول ليست ملكا لمن يعيش عليها فحسب، بل هي أمانة تقوم بحمايتها هذه الجماعة البشرية، ويعمل على الحفاظ عليها هذا الجيل الحالي، والذي هو متجدد على مدار السنين؛ ليسلمها لجيل تال عليه أن يحمل الرسالة، وأن يحفظ الأمانة هو الآخر، ليقوم بتسليمها إلى من بعده من أجيال.

 ومن هنا فإن الدفاع عن التراب، وحماية الحدود دونها الأرواح، وترويها دماء الأبطال من أبناء الدول، تلك الأرواح وهذه الدماء التي تُسْتصْغَر أمام حبات الرمل أو ذرات التراب، إن هذا الفداء بالأرواح وذاك البذل للدماء في سبيل تراب الأوطان لهو أمر طبيعي، فالإنسان ذاهب، والأوطان باقية، ومن هنا تكون التضحية بالزائل، للحفاظ على الباقي دوما على مر الزمان وهو الوطن.

ليست كلمة تلقى هكذا في الفضاء، تلك التي نسمعها من البعض، وخاصة المصريين، حينما يطلب أن يُوَارَى الثرى بعد موته في مسقط رأسه أو في وطنه، ذلك المطلب الذي يخرج من هؤلاء المغتربين المقيمين في خارج الأوطان، والذي يمكن أن ينتاب البعض التعجب والحيرة في تفسيره، إذ كيف بعد غربة قد تصل إلى نصف قرن أو يزيد، في بعض الأحيان، هاجر فيها أو رحل، طوعا أو كرها، ذلك المغترب عن وطنه، وإذا به، في وصية لأبنائه، أو المقربين منه، مكتوبة أو شفوية، كم رأيناها وقرأناها، يطلب أن يُدْفَن في وطنه، بل يحدد، غالبا، مسقط رأسه، تلك الحيرة التي ما تلبث أن تزول، وذلك العجب الذي لا يلبث أن يتبدد، إذا أدركنا أن هذا المغترب السويّ، يتشربه إيمان عميق بحب الوطن، وأنه في الحقيقة معجون من تراب بلده، مشدود إليه، لا يمكن أن ترتاح عظامه، إلى إذا اختلطت به ثانية، ولا يمكن أن تهدأ روحه إلا ذاب تراب جسده المتحلل مع تراب ذلك الوطن، ليضيف ذرات تراب جديدة تضاف لهذا الوطن لا تنقصه. إن الأوطان لا تَحْمى حدودها من خلال تلك الجيوش التي تسعى كل دولة على إنشائها وإعدادها خير إعداد، والتي توفر لها أسباب تفوقها، كل دولة حسب إمكاناتها، وقدراتها؛ البشرية والمادية والعلمية، فحسب، ولكنها تحمي كل ذرة من ترابها بإيمان متغلغل في أعماق شعوب هذه الأوطان بأن بقاءها وحمايتها هو الأولى والأهم من أي شيء آخر، ذلك الإيمان الذي يجعل جميع أبناء الشعب جنودا في الوطن، يأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه، ذلك الذي لا يمكن أن يحدث إلا في حالة وعي عامة، تلك الحالة التي تعلي مفهوم قيمة الوطن عما سواها، وتجعل العمل على رفعة ذلك الوطن في العقل الجمعي للشعب إيمانا مطلقا يستحيل إلى عمل فردي متناغم في منظومة كلية إطارها الإخلاص وحدودها الوطن.

 ذلك الوعي الذي لا يمكن أن تتحصل عليه أمة أو يمتلكه أبناء شعب، إلا من خلال آليات ضبط، ومحاسبة، يدركون فيها أن هذا الوطن هو ملك لهم، وستمتد ملكيته إلى أبنائهم وأحفادهم، ذلك الذي يستدعي شعورا يتملك أبناء ذلك الشعب أن ما من فوارق بينهم في الحقوق والواجبات، وأنه ليس هناك محاباة لفئة دون أخرى، أو اصطفاء لمجموعة دون سواها، أو تمييز لطائفة دون غيرها. إن أكثر الجيوش إيمانا بالوطن هو جيشنا المصري الذي ضرب أروع المثل في الفداء والتضحية، وأكثر الجيوش في العالم، ولا أبالغ، فيما يملكه من حب وعشق في نفوس أبناء شعبه، فما من مصري إلا ومتيم بعشق كل من يرتدي الزي العسكري لهذا الجيش العظيم، تقديرا لعقيدته التي لا تعتدي، ولكنها تدافع وتحافظ، وإيمانا بتضحيات أبطاله، الذين يبذلون أرواحهم ودماءهم طالبين الشهادة، راضين بقضاء الله، ضاربين المثل في حماية الأوطان، وما يقوم به أبطال ذلك الجيش الأبي في سيناء الحبيبة، في حرب يواجه فيها عدو خسيس، تساعده قوى ودول تسعى للنيل من مصرنا الغالية، يقدم خلالها أسود القوات المسلحة المصرية مثلا يحتذى في الفداء والعطاء، إنما يبرهن على تلك العقيدة المترسخة في أعماق الاعماق، الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، المبنية على الدفاع لا الهجوم، على الحفاظ لا الاستيلاء، على رد كيد المكيدين، يقدر ذلك كله شعب يثق في قدرات أبطاله، ويؤمن بنفس عقيدتهم..