مدحت بشاى يكتب: توفيق الحكيم و "شهوة التغفل"

مدحت بشاى يكتب: توفيق الحكيم و "شهوة التغفل"
مدحت بشاى يكتب: توفيق الحكيم و "شهوة التغفل"

 

لا شك أن المتغيرات التي عشناها عبر كل المراحل و المحطات الانتقالية في الفترة الأخيرة ، جعلت الناس في بلادي يكررون المطالبة بإعمال دولة القانون بعد كل ما تلاحظ من تطور نوعي وكمي مخيف من وقوع جرائم الفساد الكبرى والمتوسطة والصغرى وعلى كل لون ، وأيضًا بعد انتشار جرائم النصب والدجل والاحتيال على الأموال العامة ، وكمان تداعيات فتاوى أشاوس التدين الشكلي بالخروج عن تعاليم الأديان ، بل والمتاجرة بها ،و التي زادت وتيرتها جميعاً على مدى فترات تداعي أجهزة المتابعة والرقابة وإنفاذ القانون أثناء وعقب أحداث الفوران الشعبية في 25 يناير و 30 يونيو ..

وعليه ، فقد ازدادت أعداد ضحايا ذلك الانفلات الاجتماعي والقيمي ، وكان الرد عليهم بالمقولة الشهيرة   الشائعة " القانون لا يحمي المغفلين " ..

و المغفل هو من لا فطنة له ومن السهل إقناعه بأي أمر حتى لو كان يمثل " توريطة " ضارة به .. المغفل مشتق من كلمة غافل والغافل هو الذي لايفطن لما يُحاك ضده  و القانون قد يحمي الغافل اذا ثبت بأن كان هناك قصد لتغفيله ولكن هنالك غفلات يقع فيها البعض بجهل القانون ومثل هذه الغفلات هو الذي لايحمية القانون ..

و القانون لا يقتنع و لا يعول إلا على الأدلة و الإثباتات و الشواهد رغم أنه وجد لحماية مثل هؤلاء 
إلا أنه واقعيا لن يحميهم إذا كانوا من الغفلة حتى أنهم أضاعوا حقهم بإيديهم لكن لازال أمر المقولة الشائعة محل خلاف بين القانونيين و غير القانونيين ..

القانون وضع لحمايه الجميع ، ولكن لا يمكن الدفع بالجهل به. إذ أنه يفترض العلم بالقانون من الكافه بمجرد نشره بالجريده الرسميه عقب صدوره وإقراره رسمياً.. وذلك حتى لا يتنصل أحد من المسئوليه أمام القانون أو التمتع بمركز قانونى أفضل فى حال قبول الدفع بالجهل بالقانون ..

في أمر الغفلة والمغفل يقول الحقوقي " النائب في الأرياف " الأديب الكاتب الكبير توفيق الحكيم .. " الناس تتهم الدجالين ، وأنا أتهم المغفلين ، فلولا المغفلون لما أفلح دجل في صناعته .. ولولا سهولة الاستغفال لأعرض عنه الدجالون كما يعرض إنسان عن كل عمل عسير ، وكلما قيل : عندنا دجالون كثيرون .. كان هذا مرادفاً لقول القائل : إن المغفلين عندنا كثيرون ربما صح أن يقل إن " شهوة التغفل " تغلب على بعض العقول فيشتهي أصحابها الغفلة ويعرضون عن النصيحة ، ويمشون نصف الطريق إلى الفخ المنصوب وهم راضون مغتبطون ، وحذار أن تستمع إلى هذا القول فتشك فيه ، فقد يكون هذا الشك من ذلك الاشتهاء فإن المغفل الأصيل هو هو الذي يستغرب القول بشهوة التغفل ، لأنه غارق فيها إلى ذؤابة رأسه ، فلا يدري ما يشتهيه ولا يدري ما ليس يشتهيه ، وحقيقة الأمر في ذلك أن اليقظة مشقة ، وأن الغفلة راحة ، وأن اليقظة عمل ، والغفلة استسلام ، ولا عجب إذن في أن يُقال إن المغفل يشتهي الراحة ويميل إلى الاستسلام ، لأن المشقة لا تُشتهى ، والعمل لا يتم بغير قدرة ، وأيسر من القدرة والمشقة أن يغفل المرء ويستريح ! ..." .. هكذا عرف القانوني والأديب  توفيق الحكيم الغفلة والمغفل بنظرة خاصة منه ..

ومن أوراق تاريخنا في الشرق الطيب وحكاويه يذكر لنا الكاتب هشام عبد المنعم حدوتة  " الشريف حسين أمير المغفلين " ، والتي يصف فيها الحال الذي كان عليها الشريف حسين أمير مكة والتي استغلها الأعداء لتفتيت وسقوط دولة الخلافة العثمانية .. يقول " لقد بلغ الشريف حسين منتهاه في الغفلة وعدم الفهم للأحداث والدوافع لخطط العدو فاندفع بكل قوته في خدمة أغراض العدو حتى لما صدر وعد بلفور لليهود وانتشر خبره بين الناس، أرسل حسين بكل سذاجة لانجلترا يستفسر عن صحة الخبر فأرسلت انجلترا أحد مسئوليها وهو الكولونيل باست برسالة للشريف الساذج لتستكمل خداعه قائلة: إن الحكومة البريطانية لن تسمح بالاستيطان اليهودي في فلسطين إلا بقدر ما يتفق مع حرية السكان العرب من الناحيتين السياسية والاقتصادية. وقد صدَّق الشريف حسين مقولة بريطانيا التقية الشريفة! وقال لهم: إنه ما دامت الغاية من وعد بلفور هو أن تهيئ لليهود ملجأ من الاضطهاد، فإنه سيبذل كل نفوذه ليساعد في تحقيق تلك الغاية، والتي أصبحت بعد ذلك واقعًا أليمًا نتجرع مرارته ليومنا الحالي...إن فهم الشريف حسين للثورة كلها كان من وجهة نظر دينية ، ولكنه أوتي من قبل غفلته بمخططات الأعداء ومن قبل أطماعه في الزعامة والقيادة، وهذا الفهم الساذج للقضية جعل الإنجليز ينصرفون عنه بعد استنفاذ الغرض منه تمامًا كما يلقى الحذاء بعد اهترائه!  " ..

وأعود إلى كاتبنا الكبير توفيق الحكيم ، فقد تناول في مقال له بمجلة " الإثنين والدنيا " عام 1948 " بعنوان " إني أتهم " .. يقول " كلما اتهم الناس صحيفة من الصحف بالإسفاف والهبوط تعللت برغبة الجمهور ، وجهل الجمهور ، وإقبال الجمهور ، وصحيح أن الجمهور يقبل على السلة الرخيصة في الطعام والكساء .. ولكن متى ؟ .. حتى يجدها ولا مراء ! ، أما إذا لم يجدها فإنه يقبل على الموجود ، ويروض نفسه على قبوله ، ويتعود المتعة به والرغبة فيه كذلك كان الجمهور قبل خمسين سنة يشهد التمثيل ويصغي إلى الممثلين وهم ينشدون الشعر الفصيح ، ويتبادلون الأمثال والأسجاع ، وكان يحفظ القصائد الي لا يحفظها تلاميذ المدارس في هذه الأيام ، ولم يكن علمه باللغة العربية أوسع من علم العامة بها في عصرنا هذا ، ولكنه هو الموجود الميسور الذي لا حيلة له فيه ، أما إذا وجد الحيلة فاستفاد منها ، ووجد الفرصة السانحة فمال إلى اغتنامها ، فالتهمة لا تصيبه إلا بعد أن تصيب غيره .. إن غيره هنا هو الفاعل الأصيل .. أما الجمهور فليس هو في هذه الجناية إلا شريكاً يستحق الرأفة حين يقع التشديد كله على الفاعل الأصيل ، والفاعل الأصيل هنا هو الصحافة الغراء ولهذا تتهم الصحافة الغراء ولا تتهم الجمهور المعذور .

والرأي العام يتهم الحكومة .. وأنا أتهم الرأي العام ، فكل شيء مطلوب من الحكومة وكل ذنب محسوب على الحكومة ، وكل رجاء معلق بالحكومة فما هي هذه الحكومة ؟ .. إنها وكيلة الأمة وليست مرضعة الأمة .. والفرق بين الوكيل والمرضعة إن الوكيل يعمل بإرادة الأصيل ، وأن المرضعة تتكفل للرضيع بما تختاره له من الطعام والشراب والمشي والقعود ، واليقظة والنوم ، وتوشك أن تتكفل له بالمضغ والهضم وتوابعه وبواقيه .. !

 

مدحت بشاي

medhatbeshay9@gmail.com