إدوارد فيلبس جرجس يكتب: اعـتراف (الحلقة الأخيرة)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: اعـتراف (الحلقة الأخيرة)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: اعـتراف (الحلقة الأخيرة)

 

 

دارت عينا القس ميخائيل صبحي تتفحصان صفحات جواز السفر الخالية من أي أختام أو تأشيرات ، عقله لا يريد أن يستوعب الحقيقة الماثلة بين يديه ، الصورة صورته ، نفس الصورة التي كانت ملصقة على جواز سفره ، لكن جواز السفر وأوراقه مزيفة ، تلاقت نظراته مع نظرات هاني الصنباوي وابنته لوسى ، تشابكت في خيوط لا تجد من يحل عقدها ، بدأت الأسئلة التي لا تجد لها إجابة تتسابق إلى ألسنتهم في وقت واحد ، قال القس ميخائيل وخلف كل كلمة تقف علامة استفهام وتعجب :  

_ نجيب العزيزي في السجن ، فمن له مصلحة في سرقة جواز السفر واستبداله بآخر مزيف؟! ، ومن الذي اختطف ابنك ؟! ، إلا إذا كان كلف رجاله هنا وفي أمريكا ، لكن يبقى السؤال الحائر ، لماذا وهو يعلم أنه سيقضي طوال عمره تقريباً خلف القضبان ؟! ، صمت قليلاً ثم تابع قائلاً : أعتقد أنه لن يجيب عن هذه الألغاز سوى نجيب العزيزي نفسه ، سأذهب لزيارته في السجن وأحاول أن أدفعه للإعتراف إن كان هو الذي دبر لاختطاف ابنك ، أشك في مدى استجابته لأنه بالتأكيد يحمل لي ضغينة بعد أن أبلغت عنه ، لكن لا بد من المحاولة .

قالت لوسي الصنباوي متلهفة :

_ دعني أذهب معك يا أبي فقد أستطيع أن أستعطفه ليعيد لي ابني .

وقال هاني الصنباوي :

_ نعم يجب أن نذهب جميعاً ، علاقتي به كانت طيبة  قبل هذه الأحداث ، ولم أتقابل معه بعد حدوثها .

********

ترحيب مبالغ فيه من مأمور السجن بالقس ميخائيل وهاني الصنباوي وابنته ، لم تستطع ملامحه إخفاء ما يعتمل بداخله ، كلف أحد الضباط بإحضار نجيب العزيزي من محبسه بعد أن تبادل معه نظرة كحديث صامت . عاد الضابط ليخبرهم بأن السجين نجيب العزيزي رفض أن يتحدث مع أحد ، إبتسامة لا تُقرأ فوق شفتي مأمور السجن وقال وهو يحاول الهرب بنظراته نحو سقف الحجرة :

_ آسف ، كنت أود أن تتم هذه الزيارة ، لكن من حق السجين أن يرفض مقابلة أي زائر أو التحدث مع أحد ، ولا نستطيع إجباره لأن القانون يمنع ذلك .

نظرة متشككة تبادلتها الأعين ، نهض القس ميخائيل شاكراً ، تبعه هاني الصنباوي وابنته لوسى ، في خارج السجن كان أول من بدأ بالحديث هو القس ميخائيل قائلاً :             

_ إن بعض الظن إثم ، لكن لست أدري لماذا ينتابني الإحساس أن شيئاً غريباً يدور داخل جدران هذا السجن ! .

وعلق هاني الصنباوي قائلاً :

_ نفس هذا الإحساس ينتابني أيضاً !

وقالت لوسي :

_ وماذا تظنان ؟.

أجاب القس ميخائيل مبتسماً :

_ لو كنا نعلم ما كنا ظننا !

الظنون والشكوك لم تدم لوقت طويل ، خرجت الصحف في اليوم التالي تتحدث عن حريق اندلع في أحد السجون ، وأن عددً كبيراً من المساجين التهمتهم النيران ، وتضمنت قائمة الضحايا رجل الأعمال نجيب العزيزي . الخبر لم يكن مدهشاً سوى للقس ميخائيل وهاني الصنباوي وابنته لوسى ، تحولت الشكوك والظنون إلى حقيقة مؤكدة بأن لعبة تمت داخل السجن ، وقال القس ميخائيل محدثاً لوسي :

_ أعتقد أنني توصلت الآن إلى سر جواز السفر المزيف ، والحريق الذي اندلع داخل السجن والإدعاء بأن أحد ضحاياه نجيب العزيزي ، إدعاء كاذب ،  نجيب خارج السجن ، بل خارج مصر كلها ، وأنه وراء تزييف جواز سفري ، واختطاف ابنك .

   قالت لوسي والخوف ينطق مع كلماتها :

_ هذا ما راودني منذ البداية ، وأن القس الذي اختطف ابني لم يكن سوى نجيب العزيزي متنكراً أو أحد رجاله .

قال هاني الصنباوي محاولاً ان يخفي مخاوفه .

_ آخر شيء كنت أفكر فيه ، ان يكون نجيب العزيزي خارج القضبان ، والأعجب أن هربه تم بمعاونة إدارة السجن!!!

قالت لوسي وقد تملكها الجزع :

_  معنى هذا أنه يمكن أن يكون الآن خارج أمريكا ومعه ابني ، له أعماله في كندا واستراليا ، ومن خطط لكل هذا يمكنه أن يفعل أي شيء ، وخاصة أنه لديه رجاله في كل مكان .

قال القس ميخائيل وقد تأثر بشدة لوجه لوسي الذي احتله شيئاُ أكثر من كلمة الخوف :

_ آسف يا ابنتي ، قد أكون أنا السبب بإبلاغي عنه .

_ بالعكس يا أبي ، إبلاغك عنه أنقذني من العيش مخدوعة مع قاتل ، تخلص من زوجته بأعصاب تخلت عن أبسط قوانين الرحمة بعد سنوات العشرة الطويلة التي امضياها معاً .

قال القس ميخائيل بصوت دامع :

_ نعم يا ابنتي زوجته ثمنها يفوق اللآليء كما قال سليمان النبي ، لم نعرف فيها سوى كل فضيلة ومحبة  .

قال هاني الصنباوي وقد انتقل إليه خوف ابنته :

_ يجب أن نعود إلى أمريكا سريعاً ، وأسأل الله أن يكون لا يزال بها ونتمكن من استعادة الطفل ، آسف يا بنتي أنا لا أريد أنا أزيد من مخاوفك ، الموضوع ليس سهلاً ، وخاصة أنه دخل أمريكاً متنكراً في ملابس القس ميخائيل وجواز سفره ، وقد يكون خرج منها بنفس الطريقة ، وخاصة أنه سرق كل الأوراق الخاصة بالطفل .

قال القس ميخائيل ووجهه لا يزال مسرحاً لتفكير عميق :

_ سأقوم بخطوة أأمل أن تأتي بما يفيد .

قالت لوسى بلهفة وبعض الأمل :

_ ما هي يا أبي ؟

_ ليليان ابنة نجيب العزيزي ، في بعثة في أمريكا ، هذه الإبنة صورة من امها رحمها الله ، أعرفها منذ أن كانت طفلة صغيرة ، ورثيت لدموعها وقلبها الذي مزقه الحزن على فراق أمها ، جاءت لزيارتي بعد وفاتها ، ورأيت في عينيها حزناً يطحن كيانها ، تركت معي رقم هاتفها بأمريكا وعنوانها ، سأقوم بالإتصال بها فقد يكون لديها أي معلومات قد تفيدنا ، وربما يكون نجيب اتصل بها .

قال هاني الصنباوي بصوت يشوبه الشك :

_ وهل تظن أنها لو لديها معلومات عن أبيها ستخبرنا بها ، وخاصة أنني علمت من حديثك أنها تكن له كل الحب .

قال القس ميخائيل :

_ نعم كما تقول ، لكنها ورثت كل فضيلة أمها ، وأعتقد بعد علمها بالجريمة التي ارتكبها في حق أمها ستكون لها نظرة أخرى ، وخاصة بعد أن أُخبرها  باختطافه الطفل من أمه .

**********

قال مبتسماً :

_ هل تذكرينني ؟

قالت بوجه هده الحزن :

_ نعم اتذكرك ، لقد رأيتك مع أبي في نيويورك ، كان هذا منذ سنوات ، لكنني لا زلت أتذكرك.

قال حامد البستاني ضاحكاً محاولاً أن يزيل الكلفة :

_ أذاً أنت تحملين ذكاء والدك .

قالت بصوت كسير :

_ والدي ، أين والدي ؟ لقد فقدت الأم والأب معاً ، أمي قُتلت واتُهِم أبي بقتلها وحُكِم عليه بالسجن ، لست أعرف كيف سأعود بعد أن تنتهي دراستي ، وكيف سأعيش وحيدة ؟     

قال حامد البستاني مبتسماً ومحاولاً أن يستغل ضعفها ويأسها للموافقة على عرضه :

_ لا ، أنت لست وحيدة ، والدك بجانبك ، وأخاك الصغير الجميل ، الاثنان ينتظرانك لتكونوا أسرة صغيرة جميلة .

قالت ليليان وقد بدا على وجهها عدم الفهم :

_ لست أعرف عن ماذا تتحدث يا استاذ حامد ، أنا أعلم أن والدي بالسجن وأن أبي لم ينجب سواي .

قال حامد ولا تزال الإبتسامة تعلو شفتيه :

_ والدك الآن حراً طليقاً بأمريكا ، والأخ الأصغر أنجبه والدك من زوجته التي تزوج بها هنا في أمريكا ، وكانت هي السبب في ارتكابه لجريمته .

_ من المؤكد أن أبي حراً طليقاً في أمريكا بعد هروبه بطريقة ما ، لأنه ليس من المعقول أن يطلق سراحه بعد ثبوت جريمته ، لكن ماذا عن أخي وكيف ستوافق أمه أن تتركه ليعيش معي أنا وأبي.

_ لقد تمكن والدك من أخذ الطفل منها .

دهشة فوق وجه ليليان وقالت :

_ كيف تمكن أبي من أخذ الطفل من حضن أمه ؟! ، ليس من المعقول أن يكون أخذه بطريقة قانونية؟! , أرجو أن توضح.

قال حامد البستاني محاولاً أن يخفف من وقع كلماته :

_ لقد تمكن والدك بعد هربه إلى هنا أن يختطف ابنه ، وهو الذي طلب مني أن آتي إليك وأنقل لك رغبته  متعشماً أن تسامحيه على فعلته .

_ أرجو أن تحدثني بالتفصيل عن كيفية اختطافه لابنه .

سرد حامد البستاني القصة بكل تفاصيلها التي سمعها من صديقه نجيب العزيزي  . وبدت على وجه ليليان مسحة من الشفقة ، لكن عيناها كان بداخلهما حديث آخر ، وقالت : 

_ حديثك دفع إلى قلبي الشوق لرؤية أبي وأخي ، لكن كيف ؟!

بدت على وجه حامد البستاني فرحة الفوز في مهمته التي كلفه بها نجيب العزيزي ، لكن ما أدهشه هو قبولها الغير متوقع دون أن تكبده مشقة الإقناع ، كان يخشى مواجهاتها ورفضها المحتمل بنسبة كبيرة ، قال وسعادة تعتمل داخله وتنطق مع كلماته :

_ والدك والطفل الجميل يقيمان معي الآن ، ولا تتخيلي مدى السعادة التي ستحل على والدك ، عندما يراكِ أمامه ، فأنتِ والطفل الصغير كل ما تبقى له من أمل في هذه الحياة .  قالت ليليان وابتسامة تعلو شفتيها :    

_ وأنا كذلك ، من فضلك أترك لي العنوان ، وسأحضر في عطلة نهاية الأسبوع .           عاد حامد البستاني يحمل الخبر السعيد إلى نجيب العزيزي الذي امتلأ بفرحة غامرة .      

**********

 

أصر القس ميخائيل أن يرافق هاني الصنباوي وابنته لوسي إلى أمريكا ، شعور داخلي بدأ يقلقه بأنه السبب في ضياع الطفل من أمه ، تمنى لو استطاع أن يعيد الطفل إلى أمه ويقدم نجيب مرة ثانية للعدالة ، جلس وسط الأسرة التي اجتمع كل أفرادها في منزل هاني الصنباوي يتبادلون الأراء في كيفية العثور على الطفل وإعادته إلى حضن أمه .

*********

لم يصدق نجيب العزبزي عينيه وليليان ابنته تقف أمامه ، صدقت في وعدها لحامد البستاني  وذهبت في عطلة نهاية الأسبوع إلى كاليفورنيا ، وفي منزل حامد البستاني رأت أبيها ، كانت المرة الأولى بعد ارتكابه لجريمته وهربه من السجن ، لم تحاول أن تنبش الماضي  ، مما أثار دهشة أبيها ، لكن دهشته ذابت عندما شاهدها تحتضن أخيها وسيل من الدموع ينساب فوق رأسه ، انفتحت ابواب الأمل أمام عينيه ، وأن ما فكر فيه وحسب حساباته على وشك أن يتحقق ، سيأخذ ابنته وابنه ويذهب ليدير أعماله من استراليا ، الحريق الذي شب بالسجن في مصر وتقرير مأمور السجن بأنه ضمن الضحايا طوى صفحته ومعها جريمته ، سيوكل ابنته لإدارة أعماله وهو من خلفها يرشدها ويعينها ، ومن مركز القوة سيرسل إلى زوجته لوسي يعرض عليها أن تلحق به هناك ، بالتأكيد ستلين من أجل ابنها ، ومن يدري فقد تطوي هي أيضاً صفحة الماضي ، وتقبل أن تعيش معه ، وتتحقق أحلامه كلها ، الأفكار السعيدة كلها قفزت إلى رأسه أمام مشهد ابنته وطفله الذي أشرق وجهه بابتسامة طفولية جميلة وهو يداعب بيده الصغيرة وجه اخته ، قال نجيب متشجعاً :

_ أرجو يابنتي أن تنسي الماضي وتغفري لي فعلتي .

قالت ليليان ووجهها خال من أي تعبير :

_ أرجو يا أبي ألا تثير هذه الذكريات الأليمة ، وما حدث قد حدث .

تهلل وجه نجيب العزيزي بفرحة غامرة وقال وهو يظن أنه في حلم :

_ هذا ما توقعته من حبك لي ، وتأكدي أنني منذ اليوم سأكون خادماً لكما .

وقالت ليليان وعلى وجهها حشود من الحنان والعطف :

_ تأكد أنني سأفعل المستحيل لينشأ أخي وهو لا يحمل غصة في حلقه .

قبل رأسها وهو يردد بأنها اثبتت أنها بنت أبيها .

**********

بعد ليلة ساهرة مليئة بالأمل ، استيقظ نجيب العزيزي بعد أن قاربت الساعة على الواحدة بعد الظهر ، وجهه يطفح سعادة ، الأمور سارت بأكثر مما كان يأمله ، لم يتوقع أن تقبل ليليان أن تعيش معه بهذه السلاسة ، ستكون بمثابة الأم لإخيها الصغير ، لم يتوقع أن تتقبل جريمته وأن توافق على العيش معه دون حتى كلمة عتاب ، كانت قريبة من أمها جداً فما الذي حدث ؟!! ، كيف رحلت عن ذاكرتها بهذه السرعة ،  ليلة الأمس  تبادلت الضحكات بسخاء معه ومع حامد البستاني ، من الغد سيقوم بالترتيبات ليرحل ثلاثتهم إلى استراليا مبتعداً عن زوجته لوسي الصنباوي . يعلم جيداً أنها لن تترك طفلها إلا إذا أصبحت جثة هامدة ، لو ظل في أمريكا لن تهدأ حتى تعثر عليه وتنتزعه من حضنه ، استطاع بسطوة المال أن يهرب من مصر ، في أمريكا لن يفيده المال في الهرب من جريمة الإختطاف ، أطلق صفيراً للحن يهواه ، نهض من فراشه  ليستمتع بالجلوس مع ابنته وابنه ، بحث عنهما في أرجاء القصر ، كلف الخدم بالبحث عنهما في الحديقة المترامية الأطراف ، قال وابتسامة على وجهه أن ابنته اصطحبت أخيها في جولة ، أنعشته هذه الفكرة وأطلقت في داخله مزيداً من الإستبشار . عاد حامد البستاني من الخارج ، استقبله نجيب العزيزي بضحكة تقطر سروراً ، قال ولا يزال فمه مليئاً بالضحكة :        

_ ألم أقل لك إن ليليان تشبهني إلى حد كبير ، وأنها من المؤكد ستغفر لي فعلتي .

ابتلع حامد البستاني لسانه ، وبدت على وجهه تعبيرات مختلطة من الرضا والأسف من أجل صديقه ، ففي هذه اللحظة كانت ليليان تطرق باب لوسي الصنباوي في بنسلفانيا ، لتقدم لها طفلها ، حركت دموعها قلب حامد البستاني ، ضحكاتها ليلة الأمس لم تكن سوى خدعة تخدر بها والدها لتهرب بالطفل وتسلمه لأمه ، كانت تعلم بما حدث قبل أن يذهب إليها حامد البستاني ، من محادثة هاتفية مع القس ميخائيل ،  قالت لحامد البستاني وسط دموعها أنها لو أعادت الطفل إلى حضن امه سيخفف هذا من ألامها التي تزداد يوماً بعد يوم على فراق أمها ، رق قلب حامد البستاني وساعدها حتى طارت بها الطائرة إلى بنسلفانيا ، إعترافه كان بمثابة مطرقة هشمت رأس نجيب العزيزي ، لم يقف ليحاسبه على فعلته ، خرج سريعاً وهو ينعت حامد البستاني بأشد الألفاظ قساوة .

**********

إنطلقت رصاصة من مسدس الضابط لتستقر في رأس نجيب العزيزي وتكتب نهايته ، إنطلق خلف ابنته وابنه إلى بنسلفانيا ، تسلل إلى الداخل رافعاً مسدسه في وجه الجميع ليعيدوا الطفل إلى حضنه ، لم يعلم بوجود القس ميخائيل في إحدى الغرف الداخلية ، الذي تسلل على صوت الصياح وشاهد الموقف دون أن يفطن إليه نجيب العزيزي ، عاد على اطراف أصابعه وتمكن من مهاتفة الشرطة ، في لحظات كانت الشرطة تملأ المنزل ، وعندما استدار نجيب العزيزي ليواجههم وهو لا يزال شاهراً مسدسه ، اضطر الضابط أن يطلق رصاصته .

 

**********************

إدوارد فيلبس جرجس