إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 12)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 12)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 12)

(12)

من الواجب أن يرد الضابط "خالد" جميل الجوكر مدير مكتب حامد النجار ، تعارفهما نشأ منذ فترة قصيرة ، عن طريق زميل الدراسة وصديقه الضابط "وائل"  ، الذي يمت بصلة قرابة للجوكر . لم ينس وائل أبدا فضل الجوكر في التحاقه بكلية الشرطة ، ولم ينس أيضا ما يمكن أن يقدمه له الجوكر من خلف حامد النجار ، تحين الفرص ليقدم له دائما ما يثبت ولاءه له . عندما علم بجريمة علي أخو صديقه خالد ، أسر في أذن خالد بأن المعونة في جراب الجوكر مدير حامد النجار ، اصطحبه إليه ليتم التعارف ، وبالطبع سيكون هناك مقابل لهذه الخدمة العظيمة . كانت هذه إحدى وسائل "وائل" لرد معروف الجوكر معه ، اصطحاب أصحاب الخدمات إليه والباقي معروف ، الثمن قدر الخدمة التي ستؤدى وحجمها ، خدمة خالد من الحجم الكبير ، أخوه "علي" ينتظر حكم بالإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة .

ضحك الجوكر وهو ينظر نحو خالد وهو في  حلة الشرطة وقال:

_ ألم تشفع له أضابيرك ؟!

أجاب خالد متزلفا :

_ أضابيري لا زالت في القاع يا معالي الباشا ، لا تشفع إلا في الأشياء البسيطة ، ومشكلة أخي مستعصية ، لكن ليس هناك مشكلة تستعصي أمام معاليك .

نظر الجوكر "لوائل" وهو يهز برأسه مبتسما وقال :

_ أهنئك على حسن اختيارك لأصدقائك ، عاد نظره نحو خالد وفي عينيه نظرة ثقة مستمدة من رئيسه حامد النجار ، بث الطمأنينة في نفسه ، وبأنه سيتخذ اللازم لتبسيط الحكم إلى أقصى درجة .

وفى الجوكر بكلمته ، بعد أن رمى بثقل حامد النجار في الموضوع ، وصدر الحكم بسنة واحدة مع إيقاف التنفيذ ، حكم للأسف لا يزن حتى جرام واحد في ميزان العدالة ، أو بمعنى أفضل حكماً يتناسب مع عدالة حامد النجار وجوكره  

همس خالد في أذن صديقه "وائل" :

_ آن الأوان لأبيض وجهك أمام حبيبنا الجوكر ، وسأدعوه إلى حفل ستقيمه أمي في قصرنا ، سيكون هذا الحفل بمثابة الباب الذي سأدلف منه لأرد للجوكر جميله وفضله ، لإنقاذه عنق أخي علي من حبل المشنقة أو على الأقل من السجن المؤبد .

_ هيا أرنا همتك يا بطل وارفع رأسي أمامه ، ولتعلم أنه يفكر في أن يضمك للعمل معنا في مكتب حامد النجار ، قال لي بالحرف الواحد وهو يقهقه ، بأنه قرأ في وجهك مواهب ترشحك لتنال رضاءه ورضاء رئيسه حامد النجار .. المواهب المطلوبة مواهب من نوع بعيدة كل البعد عن موهبة العمل .

انتفش ريش الضابط خالد ، كما لو كان سمع ثناءً وجه إليه على بلاء حسن في العمل وقال:

_تأكد أن هذا الحفل سيكون  مجرد تكريم له ، وبداية لإكراميات أخرى.

لبى الجوكر الدعوة مرحباً ، يعلم أنها مجرد حجة حتى يتسنى لخالد أن يقدم له أتعابه مع رجاء لقبول هديته المتواضعة ، ومن يدرى فقد تكون هذه الحفلة من طراز الحفلات التي ترضي رئيسه حامد النجار ، يضرب عصفورين بحجر واحد ويطلب من خالد أن ينال شرف دعوة حامد النجار في المرة القادمة ، وبالتأكيد لن يهدر خالد فرصة للتمسح في أذيال شخصية كبيرة كحامد النجار .

كان من الممكن أن ينقلب الحفل وينفض السامر عندما أتى رشاد الابن الأصغر ل " جاد " ، تنفس في الجو رائحة الكحول المنبعث من أنفاس المدعوين ، امتلأت عيناه بالأجساد شبه العارية ، أمه فجر تتربع فوق القمة وهي منحنية تداعب الجوكر ، أما جاد أبوه فلم يكن دوره سوى أن يغمض عينيه عما يحدث ، يرسم فوق شفتيه ابتسامة مرغمة راضية ، لا يفوته أبدا أن يمر بإصبعه فوق شاربه المستقيم ليتذكر أنه لا يزال رجلاً . تراقص كل شيء أمام عيني الابن الأصغر ، العنصر الثاني في المنزل بعد أخته نادية ،  يحملان في داخلهما شيئا مختلفا تماما عن باقي أفراد الأسرة ، لا يعلم أحد من أين حملاه ، الفضيلة والتدين لم يعرفا طريقهما إلى الأم أو الأب أو الأخ الأكبر خالد أو صاحب السوابق علي . شيء غريب أن ينبت في هذه الأسرة فرعان مورقان مثل ناديه ورشاد ، من المؤكد أن جذورهما لم يأخذاها لا من الأب أو الأم ، ربما أتت من أجدادهما للأب الذين نشأوا على الصالح من الأمور في قريتهم بالصعيد ، مزقها الأب عندما نفض عن قدميه غبار قريته تاركا خلفه زوجة وأولاد ، قفز إلى قطار اللاعودة لتصنع منه زوجته فجر ظل رجل . أشعل مشهد الفساد المعلن في منزلهم النيران داخل رشاد ، الأم سكرى يشاهد ثدييها اللذين رضعهما يكاد يلتهمهما الجوكر بعينيه ، منحنية أمامه تداعبه كوصية الابن الأكبر خالد ، الباحث عن المنصب والجاه ، حتى لو جاءا على حساب كرامة أمه والأب وضع كل كرامته المسحولة في إصبعه الذي يداعب الشارب المستقيم  . أخوه خالد ضابط الشرطة المسئول عن الأمن ، كرس نفسه لتأمين الموبقات ، انتفخت أوداجه مزهوا لأن الجوكر مدير مكتب حامد النجار لبى دعوته . هل تبتلع هذا كله يا رشاد وتصعد إلى غرفتك مع صديقك الحميم رمزي ، لا.. الساكت عن الحق شيطان أخرس .. والحق يقول أن ما يحدث الآن حوّل المنزل إلى ماخور كبير ، سأطرد الجميع وليحدث ما يحدث . تحرك رشاد ببطء إلى المنتصف  ، قبل أن يفتح فمه بحرف واحد كانت عينا خالد الذي يعرف أخاه جيدا قد سبقت وقرأت ما يدور برأسه وما يمكن أن يثيره الآن من زوبعة قد تفسد كل مجهوداته لإرضاء الجوكر ،  قفز وأمسك بيد كالكُلاب ذراع أخيه ، وفي عينيه تهديد ووعيد يكفي لإخافة أسد ثائر . همس في أذنه أن يأخذ صديقه رمزي ويخرج فورا من المنزل ، لم ينتظر إجابة ، سحبه وذراع رشاد تكاد تتحطم بين قبضته ، خرج به للخارج وصديقه رمزي يسير خلفهما مطأطىء الرأس ، نوازع في داخله تقارن بين فضيلة صديقه وفساد ما يحدث . أطلق خالد ذراع أخيه وهو يصب في أذنه بكلمات مهددة .. إذا عاد قبل صباح الغد سيودعه زنزانة في قسم الشرطة التابع له . انكمش رشاد كورقة خريف جافة ، انتصر الخوف على مراجل غضبه ، هز رأسه في صمت معلنا طاعته ،  كان يخشى خالد خشية الموت وهو يهدده مرارا ، بأنه قادر على أن يسلمه لأيدي المخبرين الذين يعملون تحت يده ، لتأديبه داخل الحجز مع المجرمين . رسم خالد ابتسامة على وجهه وعاد إلى ضيوف الرذيلة بالداخل ، ربت رمزي على كتف صديقه ليهون عليه قائلاً :

هيا أيها المشاكس سأستضيفك هذه الليلة ، فأنا أعلم أن طعام أم رمزي يستهويك ، انفطر قلبه وهو يرى الدموع تنهمر من عيني رشاد محدثة فرقعة فوق السلم الرخامي للقصر ، جفف رشاد دموعه بكم قميصه ونظر إلى صديقه رمزي وقال :

_ هل تظن أن الدين الإسلامي يحض على الفجور .

نظر رمزي إليه وقال وطيف من الحزن يظلل وجهه :

_ يحدث أكثر من هذا عند بعض المسيحيين ، فهل تظن أن الدين المسيحي أيضاً يحض على الفجور .

سأل رشاد وقد ضيق الغضب ما بين حاجبيه :

_ إذاً ما هي العلة ؟  ..

أجاب رمزي :

_ العلة ليست في الأديان ياصديقى ، الأديان إن اختلفت في أسلوب العبادة ، لكنها متفقة تماما في طريقي الخير والشر وسبل الفضيلة . العلة في سلوكيات البشر أنفسهم من كل دين ، هناك من يذهب لأقصى الطرف ويركب جناح التعصب الأعمى ومفهوميات خاطئة للدين ، يحاول أن ينشر أفكاره بطريقة همجية على سائر البشر .  وهناك من يذهب لأقصي الطرف المضاد ويركب جناح العصيان والفسق والفجور، يزين طريق العثرة ليغوى البشر الصالحين ، كلا الطرفين خاطئ ومخطئ أبعدتهما أعمالهما عن أمن وأمان الأديان .

 انتهى الحفل ونال رضا الجوكر تماما من كل جوانبه ، نظرات ومداعبات فجر توحي بأنها يمكن أن يكون لها دورا وحكايات مع حامد النجار ، ويثبت لرئيسه أنه لا يهدر أي فرصة في عالم النساء إلا ويقتنصها له . بالنسبة له شخصيا لا يهمه اللعب مع النساء كثيرا ، اللعب مع أوراق البنكنوت والذهب والهدايا يثير فيه النشوة أكثر . لم تضع الليلة هباء ، كئوس من أجود الأصناف ومداعبات مع نساء قفزن من أسفل لأعلى بفضل مال اكتسبوه في غفلة من الزمن ، فرأين في التبرج والاستهتار المعيار المضبوط للأرستقراطية ، زادوا منهما بكشف أكبر مساحة من الأجساد وحركات مبتذلة لمن تستهويه ومواعيد للقاءات من خلف ظهور أزواج  التصق الشرف بأسفل نعالهم .. الأهم من هذا كله بالنسبة للجوكر هو اكتشافه لفجر وأنوثتها الطاحنة ، والتي سيسهب في وصفها لرئيسه حامد النجار .

**********

أصرت المربية ذات الأصل الريفي ، أن يكون الاحتفال بمرور أسبوع على ميلاد " علاء " على طريقة الأجداد ، لأنه على حد قولها يقي الطفل من عين الحسود . خاصة أن ولادته كانت مرة ، قاست فيها الأم ، حتى كادت أن تصل للنزع الأخير . انهارت أعصاب الأب برغم كونه طبيبا ، أصر الجد الطبيب أيضا ، أن يخرج ابنه عادل خارج غرفة العمليات حتى لا يزيد الجو توترا . جلس عادل خارج غرفة العمليات ممسكا بيد أمه يستمد منها القوة كما كان يفعل وهو صغير . احترق غليون الكاتب ناجي عنايت أكثر من التبغ الموضوع بداخله ، لم ينطفئ منذ دخول ميرفت غرفة العمليات ، وبالرغم من الخوف الساكن بداخله حاول أن يهدىء من جزع عادل . لم تكن ميرفت بالنسبة لعادل زوجة عادية ، جنيته التي خرجت من بحور الشعر ، لو حدث لها مكروه سينطفئ بداخله مصباح الحياة . منذ زواجه منها وهي ساهرة على هذا المصباح. زادته ميرفت وجها حبيبا آخر لا يفترق عن وجهها ، أنجبت له الطفلة التي كان ينتظرها بفارغ صبر ، كان يتمني أن يكون أول طفل يرزق به ابنة تأخذ من أمها كل صفاتها . حولت له ميرفت الأمنية إلى حقيقة وأنجبت له   "عليا "  وكأنها قطعة منها ، أصبحت الأم والابنة دنياه ، يسكب كل روحه فيهما ، لم يشأ من الدنيا شيئا آخر . اكتفى بهذه الابنة ليكرس لها كل حبه ، لا يشاركها في هذا الحب طفلا آخر، وخاصة أنه كطبيب وكنصيحة الزملاء من الأطباء علم أن الحمل مرة ثانية قد يضر بميرفت . إرادة الله هي الغالبة دائما ، فوجئ بها تخبره أنها حامل منذ فترة طويلة ، خشيت أن تخبره ، خوفا أن يدفعه حبه لها وواجبه كطبيب يعرف خطورة حمل آخر عليها ، لتصرف قد يغضب الله ، قررت أن تحتفظ بالجنين . مرت أشهر الحمل الباقية وعادل يكتم خوفه ،  لم يستطع تحمل المزيد ، انفجر الخوف بكل قوته وهو يرى حبيبته تكاد تلفظ الحياة ، اختلطت دموعه بدموع أمه تحتضنه كطفل صغير . في وسط الظلمة انفرجت طاقة وأشرقت الشمس بكامل أوجها ، فُتح باب حجرة العمليات وأسارير الجد تضحك وهو ينظر إلى ابنه قائلا :

 _ أدخل إلى الحجرة أيها الطبيب لتعتني بطفلك وأمه .

قفز عادل غير مصدق ، يمُطر وجه كل من يقابله بالقبلات ، اندفع إلى الغرفة ، أمسك بيد ميرفت يقبلها ، غير عابئ بصياح الطفل المعترض على تجاهل أبيه . مر أسبوع واجتمع الجميع للاحتفال بالمولود الجميل الذي استقبلته أخته " عليا " بالفرح ، نظر عادل إلى ميرفت ضاحكا قائلاً :

_ أعتقد أن ابنة جميلة تشبهك وابن كثير الصياح كافيان .

 ضحكت ميرفت وهي تغذي الحب في عينيه وقالت :

_ لا بأس من ثالث إذا كنت تريد .

أمسك عادل بيدها وهو يقول :

_ لو كان علىّ لاكتفيت بك أنت زوجة وحبيبة أرى في عينيها أطفال العالم كله

وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة .

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************