ميزان العدالة بقلم زينب عبد الباقي ودكتور محمد فتحي عبد العال

ميزان العدالة بقلم زينب عبد الباقي ودكتور محمد فتحي عبد العال
ميزان العدالة بقلم زينب عبد الباقي ودكتور محمد فتحي عبد العال
صدرت نتائج البكالوريوس في التّجارة، واحتفل مسعد بنجاحه فبدأت الأحلام تدغدغ خياله. خلال شهرين على الأكثر سيكون موظّفًا في شركة محترمة حيث سيعمل جاهدًا ليحصل على مركز مرموق فيها بأسرع وقت ممكن. لمَ لا؟ وقد حصل على تقدير ممتاز في جامعته بالإضافة إلى خضوعه لعدد كبير من الدّورات التدريبيّة في الحاسوب واللّغات وطرق التّسويق عبر التّعلّم عن بعد.علاوة على ذلك فهو شاب طموح، ذكيّ، خلوق ومحترم .. إذَا فالفرصة متاحة أمامه والدّنيا تفتح له ذراعيها.
ولكنّ رياح الحياة تجري بما لا تشتهي سفن الأحلام، فسوق العمل في مصر لم يسمح له بدخوله، على الرّغم من أنّه بحث جاهدًا،ولكن بلا جدوى. وحين ضاق به الحال وامتنعت الحِيَل قرر السّفر إلى لبنان بعد أن قاده البحث في موقع " لينكد إن " إلى إعلان يطلب موظفين في شركة تجاريّة في بلاد الأرز .
وهكذا، تمّ قبوله في الشّركة التي كان ينوي أصحابها فتح فرع لهم في مصر فكان توظيف مسعد بالنّسبة لهم نقطة تضاف إلى خطّتهم في هذا المجال.وهناك تعرّف إلى "علياء" الفتاة الذَكيّة ، العاشقة لتاريخ مصر القديم وواقعها الحديث. كانت علياء تسرح بعينيها العسليّتين إلى البعيد حين تسمع اسم مصر، ثم تتنهّد وتقول في نفسها:"سآتيك يا أم الدنيا .. ولو لم يبق في عمري إلا يومًا واحدًا". ذلك الرّابط الخفيّ بينها وبين ومصر دفعها إلى متابعة دورات تفتح لها نوافذ الاتّصال بمصر الماضي والحاضر عبر موقع "كورسيرا" التّعليميّ .
وكان مرعي رجلًا فظًّا يستغلّ منصبه المرموق في الشّركة لمساعدة أقاربه، وكان يحلم بمنح المركز الشّاغر لابن أخته، لكنّ إصرار مجلس الإدارة على توظيف مسعد منعه من تحقيق ما يصبو إليه، ولذلك صار يترصّد أخطاء مسعد في العمل ويوجعه بالحسم من راتبه بشكل مستمرّ. 
فاض الكيل بمسعد حتى قرّر أن يترك الشّركة ويعود أدراجه لمصر مرّة أخرى.
وحين فاتح علياء بالأمر حاولت أن تثنيه عن قراره بقولها : المصري لا يفرّ، فابن النّيل معروف بجبروته وصبره وقدرته على قلب الواقع التّعيس إلى نكتة يرويها ويُضحِك النّاس عليها. 
قال مسعد: أنا لا أفرّ يا علياء ولكنّي تعبت من الظّلم .
قالت علياء: لو تعب أجدادك من الظّلم لما بنوا الأهرامات .
ضحك مسعد لنباهتها وقال: هل تعلمين ؟ أحد أسباب تعلّقي بهذا المكان هو وجودك قربي وقدرتك على احتواء لحظات غضبي .. كم أنتِ مدهشة يا علياء! 
احمرّ وجه علياء خجلًا فغيّرت مجرى الحديث كي تخفي ارتباكها وقالت: اسمع، أنت تقول أنّك تعبت من الظّلم، فهل يواجَه الظَلم بالهروب؟ 
مسعد: طبعًا لا .
علياء : والحلّ ؟ 
مسعد: ما رأيك ؟ 
ابتسمت علياء وقالت: قرأت أمس قصّة من تاريخ مصر القديمة تتحدّث عن الظّلم، ستجد فيها الحلّ.
نظر إليها مسعد يتأمّلها ثم تنهّد وقال : هاتِ ما لديك .. 
قالت علياء : تسجّل البرديّة الفرعونيّة أن فلاحًا فقيرًا يدعى "خون أنوب"كان يحمل بضاعته على دوابّه إلى السًوق وبينما هو في طريقه المعتاد ذات يوم لمحه رجل جشع يدعى "نمتي نخت" فطمع في الاستيلاء على دوابّ الفلًاح المسكين فاحتال في سبيل ذلك بأن وضع قطعة من القماش على الطّريق الرّئيسيّ ليرغم الفلّاح على المرور بحقوله وهنا حدث ما كان ينتظره "نمتي نخت"
قال مسعد في دهشة: وما الذي كان ينتظره؟
أجابت علياء: أكل أحد حمير الفلاح من الشّعير بحقوله. 
فثار "نمتي نخت" وأمر الفلّاح " خون أنوب " أن يعطيه دوابّه وبضاعته جزاء ما فعل حماره 
قال مسعد: وبالتّأكيد رفض "خون أنوب" هذا الضّيم ورفض إعطاءه دوابّه 
قالت علياء :بكلّ تأكيد ولكنّ بطش "نمتي نخت" كان عنيفًا فأخذ الدّوابّ والبضاعة عنوة وضرب "خون أنوب" بدون شفقة ولم يبالِ بصراخه من أجل تحقيق العدالة. 
قال مسعد: مسكين ..حاله كحالي ولا مفرّ من الرّحيل ..كُتِب علينا مصير واحد
قالت علياء : تمهّل يا مسعد ..ومن قال لك أنّه استسلم لأقداره تلك؟
قال مسعد : وماذا بيده أن يفعل؟
قالت علياء : رفع قضيته للنّبيل "رنسي ابن مرو" وكيل الفرعون "نب كاو رع" الذي رفع قضيّته للقضاة حتى وصلت إلى الفرعون، فأُعجٍب بقدرة الفلّاح على عرض شكواه وبلاغته في طلب العدالة مما جعله يأمر "رنسي" بحجزه تسعة أيّام إضافيّة من أجل الاستمتاع  بخطاباته البليغة التي تلتمس تحقيق العدل ونبذ الظّلم وأمر بتزويد أسرته بالطّعام طوال فترة احتجازه. 
قال مسعد: غريب هذا الأمر وماذا حدث بعد ذلك ؟
قالت علياء : شعر الفلاح "خون أنوب" أنه وقع فريسة للتّجاهل وهدّد بالانتحار كما بدأ يغلظ القول لرنسي الذي عفا عنه في النّهاية وردّ عليه دوابّه وبضاعته وليس ذلك فحسب بل أعطاه تعويضًا هو ممتلكات الظّالم "نمتي نخت" ليذوق عاقبة فعله. 
قال مسعد متهلّلا : عظيم إنّ للحقّ راية لا تسقط 
قالت علياء : ولمَ لا تستخدمها؟
قال مسعد : عندك حق ..لن أرحل وسأرفع شكواي لرؤساء مرعي وسأنال حقّي بكلّ تأكيد.
وابتسمت علياء وهي تسرح إلى البعيد وتقول بصوت يشبه الهمس:" يا الله .. كم يحمل تاريخك  من الحلول يا مصر.. ليتنا نفهم أنّ سِهام حاضرنا تحتاج  الرّجوع إلى منابع ماضيك  لتنطلق إلى منارات المستقبل قبل أن تنكسّر أقواسنا .. دمتِ عظيمة يا أمّ الدّنيا "