د. أنور ساطع أصفري يكتب : حكوماتنا لماذا تخشى المساءلة ؟

د. أنور ساطع أصفري يكتب : حكوماتنا لماذا تخشى المساءلة ؟
د. أنور ساطع أصفري يكتب : حكوماتنا لماذا تخشى المساءلة ؟
 
علينا أن ندرك أن المجتمعات تُقيم حكومات يتم أختيارها من بين المجتمع البشري كي يحكموا دولهم ، وبدون هذه الحكومات لا تسير الأمور . 
وبالإمكان تقييم هذه الحكومات من خلال رضى ورفاهية الشعب وتلبية مطالبه .
فماذا سيكون تقييم المواطن لحكومته إذا كان يرضخ ويُعاني من الفقر وإنعدام الكرامة والحرية ؟ .
كما أن أي حكومة تفشل في الدفاع عن مواطنيها وحمايتهم ، وتفشل في تحقيق مطالبهم ، هي حكومة فاشلة في المقام الأول ، وأي حكومة تتسبب في منع الحرية أو حجبها عن مواطنيها هي حكومة مرفوضة بشكلٍ أساسي .
في إعلان إستقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا عام 1776 جاء هذا النص الرائع "" نحن ممثلو الولايات المتحدة نرى أن هناك حقيقة واضحة لا تحتاج لأي تفسير ، وهي أن كل البشر قد خُلقوا متساوون ، وأن خالقهم أعطاهم حقوقاً عند ولادتهم ، وأن هذه الحقوق تشمل الحق في الحياة والحرية والبحث عن السعادة ، وأنه لضمان هذه الحقوق يتم تشكيل حكومة من البشر تستمدّ شرعيتها من موافقة المحكومين "" .
من هنا نرى أن هذا النص العبقري حدّد دور الحكومة ، مع ضمان حق الناس في الحياة والحرية والكرامة والسعادة ، والدفاع عن مواطنيها .
ومن جانب آخر نستطيع أن نقول أن هناك حكومات فاسدة ، وهذه الحكومات والأنظمة الفاسدة لا تخشى فقط المحاسبة أو المساءلة أو النقد ، لكنها تخشى أيضاً حتّى المظاهرات والمعارضات والإضرابات العامة . وكل هذا الخوف يأتي من خلال ملف الفساد المتفشي في الحكومات وفي الأجهزة والمؤسسات التابعة لها ، ومن خلال ملف التهميش والإقصاء .
فلو لم يك هناك فساد وملفّات مظلمة لما كان هذا الخوف موجوداً بالأساس . بينما الحكومات النزيهة إلى حدٍ ما لا تخشى حتّى المثول أمام القضاء أو أمام الشاشات الفضائية . طبعاً نحن هنا نأخذ بعين الإعتبار أيضاً أن هناك حكومات فاسدة لا تخشى لا النقد ولا المساءلة ولا المحاسبة ، لأنها بالأساس مدعومةٌ من مراكز القوى في السلطة التي تُغطّي لها كل عيوبها وتبررها ، والجميع هنا مستفيد ، وتبقى الضحية الأساسية هي الشعب وبالتالي الوطن الذي تُسلب خيراته لتصبّ في جيوب المتسلقين الفاسدين العابثين بأمن وكرامة الوطن والإنسان .
ولكي لا تخشى الحكومات من المساءلة يجب أولاً مكافحة الفساد ، ومن رأس الهرم ، من الحكومة تحديداً ، لأنها إذا صلُحت فإن كل الأمور ستكون بخير، وسوف لن يجرؤ أحد على ممارسة الفساد وتجاوز القانون العام والعمل بسياسة الإقصاء .
كونفوشيوس قال : إذا كنتم عاجزين عن طرد اللصوص من الهيكل فعبثاً تبشّرون بمكافحة الفساد . فما دام المواطن أو الموظّف يُمارس الفساد بتغطيةٍ عليا ، فالفساد سيبقى متفشّياً ، وسيبقى يُمرّر إلى كل الأوساط الرسمية والشعبية .
وقولاً واحداً إن مكافحة الفساد ليس موضوعاً إنشائياً ولا قصيدة شعر ، أو أغنية نتغنّى بها ، وإنما مكافحة الفساد هو قرار ، ومسار وإلتزام وتجرّد وترفّع ، فكيف يُكافح الفساد وهناك قوى سياسية وأمنيّة تتسابق لملء الكراسي الشاغرة في الدولة بأزلامها بهدفِ تمرير مصالحهم ومكاسبهم الشخصية ، ومع الأسف وصل هؤلاء إلى أجهزة الرقابة والتفتيش القضائي والمركزي .
فكيف نبتر الفساد إذا لم نبدأ بإصلاح القضاء وتكريس إستقلاليته ، وإطلاق يده عبر مجلس القضاء ، وإجراء تشكيلاتٍ قضائية تعتمد على منحى الكفاية والنزاهة والمسلكية السليمة والنظيفة والصحيحة ، وعدم عرقلة مسارها أو تأخيره من قبل مراكز أخرى كمراكز القوى في الدولة .
كيف نبتر الفساد إذا لم نعتمد على مناصرة أجهزة الرقابة والتفتيش أمام السياسيين والحكومة بهدفِ مكافحةِ وبتر الفساد ، وإيقاف كل الصفقات المشبوهة التي تتم بالتراضي ، والعمل على إعادة دور المواطن الفاعل في صناعة القرار السياسي والاقتصادي في البلاد .
علينا أن ندرك أن شبكات الفساد في الوطن وفي الأمّة أصبحت أكبر بكثير من شبكات الصرف الصحي ، وهذا شيءٌ مؤسف ، ولكن لا بد من معالجة هذا الواقع المرير الذي بسببه تراجعت الأوطان وتدهورت .
ففي هذه المنطقة من العالم الشغل الشاغل للسلطة هو البحث عن كيفية حماية نفسها ووجودها ، وهي أنظمةٌ رخوة ، لا تملك حتّى إرادة سياسة التغيير ، وكلما وُجِهتْ بالنقد والمساءلة يقشعر بدنها ، ويُسرع نخاعها الشوكي المهترىء بردِ فعلٍ إنعكاسي ، ويُصادرون كل شيء ، والرأي الآخر ، ويُفسدون كل الأمور . فعلى هكذا أنظمة إن أرادت الخير لنفسها ولشعبها ولوطنها ، وإن أرادت لنفسها الإستمرار ، عليها أن تُغيّر من قناعاتها ، وأن تتبنّى سياسة منفتحة على شعوبها ، وتحترم قواعد الديمقراطية بما فيها التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة ، بدلاً من الفساد والمكاسب والقمع الجائر للرأي الآخر ، والتبعية العمياء .
فالتجربة أثبتت وخاصّة في السنوات الأخيرة ، أن هكذا سلوكية حكومية أصبحت مرفوضة ، وتحوّلت إلى أساليب بالية ، والخيار الوحيد هو التغيير ، تغيير سلوكها العدائي والإقصائي ، وتغيير هيمنتها السياسية والتخلّي عن أطماعها وسلطويتها وفسادها ، فالشعوب لا تخاف  ،  وبإستطاعتها أن يكون صوتها هادراً ، وبإستطاعتها أن تضحي بأرواحها فداءً لإنتزاع قرارها المسلوب وحريتها المغتصبة . لتصبح هي من يقرر مصيرها ، وهي التي تفعل وتقرر قرارها السياسي والإقتصادي في البلاد ، ولتصبح هي فاعلاً وليس مفعولاً به ، ولتصبح جارّاً وليس مجروراً ، ولتصبح جملةً فعلية وليست جملة إسميّة .
لذلك نحن بحاجة ماسّة إلى زرع أفكارنا وأحلامنا في أفئدة الناس ، وإحياء النفوس ، والإستقواء على الضعف ، وتحرير العقل العربي ، ورسم مستقبلنا المشرق بأيدينا معاً وسوية .
إبراهام لنكولن ، وفي نهاية الحرب الأهلية الأمريكية قال كلمات لا تُنسى ، وأكّد أن " الحكومة التي هي من الشعب وبواسطة الشعب ولصالح الشعب ، لن تفنى مطلقاً " .
فهكذا حكومة لا تخشى ولا تخاف أي شكلٍ من أشكال النقد أو المحاسبة أو المساءلة . ولكن مع الأسف إن حكوماتنا في هذه المنطقة تخافُ حتّى من ظلّها . وحتّى حينما تعتذر أو تبرر فيما يخص تصرفاتها ، فإن هذا التبرير ما هو إلاّ إستهتاراً بكل الشعب وبكل قيمه وآرائه .
فإصلاح الفساد لا يتم من خلال شخص بمفرده ، وهناك مسؤوليات جسام أمام الكتّاب والمثقفين والمفكرين العرب  ، وعليهم تحمّل مسؤولياتهم بهدف الأخذ بيد الإنسان والأوطان والأمة نحو بر الأمان  . 
وعلى الشعوب المكافحة من أجل مكافحة الفساد وإصلاح حكوماتها أن لا تيأس ، وأن تحوّل هذه المطالب إلى ثقافة عامة يتحلّى بها الشعب وكل مواطن ، وهذه مهمة الحكماء والمفكرين العرب ، ومن خلال إصرارهم وإرادتهم الجازمة لا بد أنهم قادرون بإرادتهم  القضاء على الفساد والفاسدين من خلال ثقافتهم وتوحدهم وقوتهم وإصرارهم وتعاضدهم .
حينها فقط ستكون حكوماتناممثّلة حقيقية لإرادة الشعب ، وسوف لن تخشى أي مساءلة أو نقدٍ أو محاسبة .