إبراهيم الديب يكتب : قراءة فى كتاب شخصية مصر لجمال حمدان

إبراهيم الديب يكتب : قراءة فى كتاب شخصية مصر لجمال حمدان
إبراهيم الديب يكتب : قراءة فى كتاب شخصية مصر لجمال حمدان
 
 
قرأت كثيرا فى تاريخ مصر ،وخاصة الكتب التي تحلل وتفسر المجتمع والشخصية المصرية ،أي الكتابات تعنى بروح الشخصية وتفردها ،ومعها أيضا؛ صفات الموقع  والموضع وأهم ما يميزه ،وتأثير كل منهما بالآخر من هذه الكتب (سندباد مصري)) لحسين فوزي ((،ومصر ورسالتها" لحسين مؤنس)) ،و((تكوين مصر عبر العصور))  لشفيق غربال ،ومن المترجمات ((النيل)) لأميل لودفيج ، ((ومصر القديمة )) لأدلف إرمان وغير ذلك .
ولكن يبقى: كتاب جمال حمدان(( شخصية مصر ))أعمق وأقوى، وأجمل  من عبر عن مصر شعبها ،و وعن أهمية موقعها الجغرافي ،جاء الكتاب مسبوكا متضافرا، من مقدمته إلى نهايته ؛نسيج واحد متماسك من الفكر كل جملة فى مكانها تماما  داخل النص تأتى بالمعنى كاملا بعمق.
أعتقد أن جمال حمدان جمع  ما امتاز به كل من كتبوا عن مصر  من موهبة ،وأحاط بكل جوانب هذه الشخصيات في شخصه منفرداً وشخصيته لمصر ، ولعله أيضاً أبرز من صاغ: فكرة الروح المطلق المجردة قبل أن تشتبك مع الواقع كما شرحها هيجل في فلسفته المثالية باستفاضة وهي التي يشرف عليها روح مطلق يدير حركة التاريخ لتتحقق كاملة في نهاية نهاية المطاف، من سيرورة  لا تكف عن تجاوز نفسها ،متحولة لصيرورة جديدة، في عملية ارتقاء وعلو مستمر بداخل العقل الكلي للكون. 
قرأت كثيرا جملة مصر (هبة النيل) أبو التاريخ: هيرودوت  جملة عابرة دون أن أشعر أنها تستحق الوقوف عندها أو مناقشتها، أو تأويلها وفك شفراتها، ولماذا اختصر واختزل مصر في هذه العبارة القصيرة الضيقة، فكنت لا اعير هذه الجملة اهتماماً، ولكنها أصبحت ذات دلالة متدثرة  معبرة مشحونة  بثراء وباب واسع يفضي لعالم رحب من الفكر الحضاري بعد قراءة شخصية . 
 فكانت بداية مصر الذي هو بداية تاريخ البشرية فعند الحديث عن مصر ونشأتها فأنت أيضاً تؤرخ للبشرية ضمنياً لأن مصر جاءت أولا ثم كتب التاريخ والناس تدون تجربتها، وكان ذلك الماضي السحيق قبل الميلاد عندما:  كان يهاجم فيضان النيل يابسة مصر ورقعتها الزراعية ، ويغرق معظم مساحتها بثورة مياهه الجامحة ؛ فى  توقيت لا يخطئه ؛ من كل عام ففطن لذلك: الشعب المصري الذي قرر مجتمعا  على؛ كف جموح النهر وتوظيف ثورته المدمرة لأرضه وقراه لصالحه كانت أعتقد أن هذه الفكرة كانت نواة الحضارة البشرية وهي فكرة الانتصار على الطبيعة بفهم قوانينها ثم توظيفها لخدمة أغراض الإنسان وكان بذلك أول شعب يخرج من: حالة سلسلة الأفراد الكثيرة التي لا يجمعها هدف, إلى روح الجماعة المتفقة على عمل مشترك، ويكمن فى هذه الروح الجماعية نشأة الحضارة  والدولة على الأرض ، بسبب ترويض المصري للنهر والسيطرة عليه أصبحت أدرك الآن بعد قراءة شخصية مصر لجمال حمدان، أو تتضح جملة هيرودوت مصر هبة النيل. 
 فقد تم بشق ترع جانبية، ومصارف لري الأرض طول العام ،فأصبح سمة المجتمع الأساسية؛ التعاون بعد صدهم النهر نتج عن تطور الزراعة و الري والذى أصبح تكون نواة المجتمع وبالطبع لابد لكل جماعة أو مجتمع   لحكومة تسن القوانين ثم تفصل فى الخصومة التي تنشأ بين مواطني هذا المجتمع  فكان نظام لا عهد للدنيا به وتشريع  يبنى على غير مثال سابق وهذه النقطة بالذات هي نشأة الدولة.
  وأنت تنتقل بين فصول الكتاب تجد أن جمال حمدان يصدر أو مجريا في كتابه شخصية، بل وكل ما تخطه يده :كل ما اتطلع عليه وهضمه وتمثله من الغربي بكل اتجاهاته الفلسفية والفكرية والنقدية مصوراً وجهات نظرهم في الحياة والاجتماع والجغرافيا والأدب، لا يعكس هذه القراءات على الورق مرة أخرى بل كان يهضمها ويتمثلها حتى تصبح  وجوهرا وجزءا من عقله و تكوينه ، محللا مستنبطا لكل ما يقرأ، يعمل فيه عقله حتى كتابته: حسه وعقله ونفسه فكان أسلوبه يجمع بين فلسفة وفكر الغرب ، وروح وحكمة الشرق أسلوب تجاوز به ثنائية الفكر لتأكيد وحدة الحضارة الإنسانية. 
 نشأت الحكومة إذا في أول الأمر من تنظيم سيرعملية؛الرى،وتوزيع المياه والتحكم فيها ، وإنشاء المقاييس والقناطر للمحافظة على المنسوب، ثم توالت التشريعات والقوانين ، تربع على رأسها الفرعون وأصبح على سلطة الهرم، و لكى يخضع الشعب له راضيا قانعا عن طيب خاطر، و لأوامره فلابد أن يكون الفرعون؛ مختلف عن رعيته فكيف يحكمهم وهم من جنسه وهنا نشأت سلطة الكهانة التي تشكل الرأي العام والعقل الجمعي الذي سيوافق الرأي الذي يريده الفرعون بإيحاء من سلطة الكهانة لمصر ولا يخرج العقل الجمعي ورأي الشعب عن تقديس الفرعون ورفع نسبة للآلهة فهو؛ رأس الحكمة، والعدل، والعلم والقوة والشدة والبأس ، على الأعداء .
وأرتضى الشعب أن تكون؛ هذه الصفات السامية الأسطورية الخارقة للفرعون ملكهم بل قاموا بإسباغ كل الصفات التي تداعب خيالهم يتمتع بها ملكهم ،حتى أصبح  الفرعون من صناعة ذهنية من عقل الشعب وليس حقيقة وسلطة الكهانة التي لعبت دوراً خطيراً في حياة الشعب المصري على مر العصور ، ليؤمنوا بعد ذلك بكل ما أنتجته عقولهم ، ليشعر الشعب بسعادة ممزوجة بتقديس ورضوخ لأوامره، لأنه مختلف عنهم وعلامة اختلافه أنه يحكم فلو لم يكن ابن إله ما ارتقى سدة الحكم كانت هذه الفلسفة من نبت عقول الكاهن المصري، لأنه شعر  أن الشعب لن  يخض لشخص مثله فنسب إليه الخوارق قبل أن يجعله ابن إله!! ،وهذه الفلسفة هي التي ساعدت على الطغيان فكان الشعب يرضخ للسلطة وهو في قرارة نفسه يقوم بتنفيذ أوامر مقدسة وهذه النظرة اعتبرها بعض المؤرخين أنها مما فرضتها طقوس نهر ونسبوا للنهر أنه سبب في الطغيان عندما فرض الحكومة ولكن النهر براء من ذلك والحكومة على رأسها سلطة الكهانة هي التي فرضت الطغيان ليسهل لها حكم الشعب. وبذلك يطمئن الشعب بأن من يتولى أمره و قادر على حمايتهم وفهر أعدائه ، وحتى لا تكون هناك معارضة من الرعية ، له ولا لسدنة المعابد ،ولرجال الدولة، وكل جهاز الحكم ،حتى تصل أدناها  وظيفة وهو الغفير، أو شيخ البلد.
كلما تقدمت في قراءة فصول كتاب شخصية تأكدت أن نهر النيل بطقوسه الزراعية وضع بذرة أول حضارة إنسانية على الأرض فى الوقت الذى كانت شعوب الأرض تسعى الصيد والتقاط الثمار