عماد جاد يكتب: ما بين العلمانية والمدنية

عماد جاد يكتب: ما بين العلمانية والمدنية
عماد جاد يكتب: ما بين العلمانية والمدنية

فى كلمته أمام مجلس النواب، كرر الرئيس عبدالفتاح السيسى إيمانه بمصر دولة ديمقراطية مدنية حديثة، وهو قول لم يصدر عن سابقيه من رؤساء مصر بدءا من محمد نجيب وصولا إلى محمد مرسى، مرورا بعبدالناصر والسادات ومبارك، ومن ثم فهو أول رئيس مصرى منذ 1952 يمتلك هذه الرؤية الواضحة ويمتلك أيضا شجاعة الإعلان عنها بوضوح. وإذا كانت الديمقراطية النيابية هى نمط الحكم الأكثر رقيا الذى طوره البشر فى رحلة البحث عن نظام الحكم الأمثل منذ الديمقراطية المباشرة التى مارستها دولة المدينة اليونانية، والتى تعنى حكم الشعب نفسه لنفسه بنفسه، ويكون المسؤول فيها موظفا عاما لدى الشعب، يمنحه التفويض وبإمكانه سحبه فى أى وقت وفق قواعد وإجرءات محددة، فإن الديمقراطية لا تتواجد إلا فى صحبة مجموعة من القيم والمبادئ مثل المساواة، الحرية، العدل، المواطنة والعلمانية. وتكشف تجارب التطور الديمقراطى فى تاريخ شعوب العالم المختلفة أنه لا ديمقراطية دون علمانية، وإذا قلنا إن الديمقراطية لا تتحقق بين ليلة وضحاها بل يجرى إنجازها بالتدريج، فقد آن الأوان كى نعالج قضية العلمانية فى بلادنا بشجاعة ووضوح بعيدا عن التلاعب بالألفاظ والدوران حول المعانى.

فللمفاهيم معانٍ محددة موجودة فى القواميس والمراجع ومنتشرة فى الثقافات المختلفة، وعندما يطلق المفهوم يكون المعنى معروفًا على وجه الدقة أو التقريب، ونادرًا ما تجد ثقافة من الثقافات ترتِّب معانى مخالفة، وربما مناقضة للمتعارف عليه فى ثقاقات الشعوب والأمم، فإذا ذكرت مصطلحات من قبيل الاشتراكية، الرأسمالية، الثيوقراطية، فإن معانى هذه المصطلحات معروفة على وجه الدقة أو التقريب، فالثيوقراطية هى الحكم الدينى أو حكم رجال الدين أو تزاوج الدين بالسياسة ولا معنى خارج عن ذلك. ومن بين هذه المصطلحات المستقرة تعريفاتها مصطلح العلمانية، فهذا المصطلح يعنى الفصل بين الدين والسياسة، يعنى حياد الدولة تجاه قضية الأديان، يعنى أن الدولة لا تميّز بين مواطنيها بسبب ما يعتقدون ويعتنقون، يعنى أنه ليس من بين مهام الدولة أن تحدد لمواطنيها ديانات مسموحا بها وعقائد مرفوضة، يعنى أنه ليس من وظيفة الدولة أن تساعد الإنسان على «دخول الجنة» فتلك قضية بين الإنسان وخالقه، له أن يعتقد ما يشاء ويؤمن بما يعتقد دون تدخل من الدولة، هذه هى معانى العلمانية فى مختلف المراجع والقواميس، إلا فى ثقافتنا العربية التى انفردت بتعريف للعلمانية يساوى بينها وبين الإلحاد أو معاداة الدين، فالمعنى المنتشر والمتعارف عليه للعلمانية فى العالم العربى هو فصل الدين عن المجتمع، أو معاداة الدين والمساعدة على انتشار الإلحاد. وقد وصل تشويه المفهوم إلى الدرجة التى جعلت أنصار العلمانية لا يفضّلون استخدام المصطلح ويستبدلون به مصطلحا آخر يقود إلى معنى قريب وهو المدنية، ومن ثم ينادون بالدولة المدنية بدلا من الحديث عن العلمانية.

جاء هذا التشويه المتعمَّد لمفهوم العلمانية نتيجة تزاوج الدين بالسياسة وتحالف رجال الدين مع رجال الحكم، فتاريخيًّا التقت المصالح، وعملا على حكم الشعب وإخضاعه، وهنا ارتدى رجال الدين ثوب السياسة وحكموا مباشرة فى صورة مباشرة لحكم رجال الدين أو النظام الثيوقراطى، كما ارتدى رجال السياسة ثوب الدين وامتزجت السياسة بالدين بشكل مباشر من خلال حكم رجال يجمعون بين الصفتين السياسية والدينية، أو صيغة مشتركة قامت على تحالف رجال السياسة ورجال الدين واشتراكهما فى الحكم معًا، حيث يحتاج رجال السياسة إلى رجال الدين من أجل الحصول على تأييد المواطنين ودفعهم إلى القبول بالحاكم وتبرير الخضوع له وعدم الخروج عليه، بل واستخدام الدين فى تهدئة غضب وثورة المواطنين ودفعهم إلى تقبل ظلم الحاكم على أساس أن الحياة على الأرض مليئة بالمظالم، وأنهم سوف يحصلون على التعويض فى السماء (ويعد تحالف القيصر مع البطريرك فى روسيا القيصرية نموذجًا لذلك) وهو الأمر الذى أسفر فى النهاية عن الثورة البلشفية الشيوعية عام ١٩١٧ واتخاذها موقفا عدائيا من الأديان، بل وحظرها وتحويل دور العبادة إلى متاحف.

ما نود تأكيده هنا هو أن تحالف رجال الدين ورجال السياسة فى مصر والعالم العربى أدى إلى تشويه متعمد للمصطلحات، وأسهم فى انتشار الجهل والأمية، ومن ثم بات مطلوبًا وبشدة إعادة تقديم المصطلحات والمفاهيم إلى الرأى العام المصرى والعربى وفق معانيها المتعارف عليها فى الثقافات واللغات المختلفة، وأن يبدأ ذلك من مرحلة الطفولة عبر الكتب المدرسية حتى يتعلم النشء المفاهيم الصحيحة والمصطلحات وفق المعانى المتعارف عليها عالميا. وفى تقديرى أن الفرصة سانحة فى مصر اليوم لتصحيح أخطاء وخطايا تحلف رجال الدين والسياسة، فظهر التوظيف السياسى للدين، وبرز رجل الدين الممارس للسياسة (التى هى حكم توافق الفلاسفة ليست مجال عمل الرجل الفاضل) وظهر «الرئيس المؤمن، دولة العلم والإيمان». لدينا اليوم فى مصر رئيس يؤمن ببناء نظام ديمقراطى مدنى حديث، وعلى الكتاب والمثقفين المصريين تقديم اجتهاداتهم فى كيفية بناء نظام سياسى ديمقراطى حديث، أى نظام علمانى يفصل ما بين الدين والسياسة، يحفظ للدين قداسته وحرمته كعلاقة بين الإنسان وخالقه، لا دخل للدولة فى هذه العلاقة، أما الدولة فوظائفها محددة وأولها فرض القانون، تحقيق العدل، إنجاز العدالة الاجتماعية للفئات الضعيفة فى المجتمع والتى تتمثل فى أربعة مكونات رئيسية هى حد أدنى للأجور، منزل آدمى صحى لكل مواطن غير قادر، تعليم عام مجانى جيد وأخيرا علاج مجانى لغير القادر.

 

 

وظائف الدولة

 

عماد جادالأحد 07-02-2016 21:17

 

414

 

 

 

كثُر الحديث مؤخرًا عن جرائم ازدراء الأديان، وبات هناك متخصصون من داخل تيار الإسلام السياسى ومن التيار السلفى وراغبى الشهرة السريعة من خارج هذين التيارين، فى ملاحقة الكتّاب، الباحثين والمفكرين مشرعين سيف «الازدراء» مستغلين مجالًا عامًّا جرى تديينه منذ مطلع السبعينيات، ودخلت الدولة عبر مؤسساتها فى عملية مزايدة مع جماعات الإسلام السياسى والتيار السلفى على «الدين» ومن الأكثر تدينًا، وهو الأمر المستمر حتى يومنا هذا، فمن نصر حامد أبوزيد إلى إسلام بحيرى وفاطمة ناعوت القائمة تطول.

وفى الوقت الذى يحاول فيه رئيس الجمهورية جاهدًا الدفع باتجاه «مدنية» المجال العام وتحديث الخطاب الدينى وتأسيس منهج جديد فى علاقة الدين بالدولة، فإن الميراث الثقيل ومقاومة أصحاب المصالح فى المؤسسات الدينية وتمسك بعض أركان الدولة بتوظيف الدين فى المجال العام وفى السياسة يعطل حركة والمجتمع باتجاه تنقية وظائف الدولة بكل ما هو مقحم عليها.

السياسة لعبة توازنات وتحالفات لا تخلو من المناورة والخداع، فقديما قال فيلسوفا اليونان (أرسطو وأفلاطون) إن السياسة ليست مجال عمل الرجل الفاضل، ومن بعدهما جاء مكيافللى ليضع نصائحه للحاكم فى كتاب «الأمير»، وجميعها نصائح باستخدام الخداع والغش والمناورة والمبادرة بالقضاء على الخصم، وغير ذلك من نصائح لا تزال صالحة لعالم السياسة.

إذن لا مجال للحديث عن قواعد أخلاقية للعمل السياسى، فهذا كلام إما نابع عن جهل أو خداع، فلا مجال للمزج بين الدين والسياسة، فالدين مقدس وثابت والسياسة تتسم بالانتهازية والتغير، والإصرار على المزج بينهما فيه ضرر شديد للاثنين، ففى المزج بين الدين والسياسة مساس بقداسة الدين وإساءة له، وفيه أيضا تكبيل للسياسة من أن تعمل وفق قواعدها المتعارف عليها، قد يرد البعض من أنصار هذا الخلط بأنهم يسعون لابتداع نموذج يمزج بين الدين والسياسة فيطهّر الأخيرة ويضع قواعد أخلاقية لها، والسؤال هنا يكون أعطنى تجربة واحدة فى العالم منذ التاريخ المسجل نجح الدين، أى دين، فى بناء نظام سياسى أخلاقى أو تمكن من تطهير السياسة والساسة، فى المقابل فإن كافة تجارب المزج بين الدين والسياسة أضرت بالدين وهزت صورته أمام الشعب، حدث ذلك فى أوروبا فى العصور الوسطى، وحدث فى العالم الإسلامى ويحدث اليوم فى مصر، فقد تسببت تجربة الإخوان والسلفيين بعد الخامس والعشرين من يناير فى بروز ظاهرة إلحاد فى مصر على نطاق أوسع مما قد يتصور البعض، والإصرار على مواصلة المزج أو الخلط بين الدين والسياسة سوف يؤدى إلى اتساع نطاق هذه الظاهرة ويدفع بمجتمعاتنا إلى السير فى طريق سبق أن سارت فيه المجتمعات الأوروبية التى اتخذت قرارها بالفصل، ليس فقط بين الدين والدولة، الدين والسياسة، بين الدين والمجال العام.

بعد صراع مرير بين رجال السياسة ورجال الدين، بين الملوك والأمراء والكنيسة، وبعد حروب دموية دامت سبعة عقود كاملة، نجحت أوروبا فى الوصول إلى المعادلة الذهبية التى حققت لهم النهوض، التقدم والاستقرار وهى معادلة الفصل بين الدين والسياسة، بين الكنيسة والدولة، وباتت قاعدة ذهبية وشرطًا مسبقًا لازمًا لأى نمو، تطور واستقرار. اليوم يوجد لدينا من يريد إعادة التجربة من جديد، يقول بأن لديه خصوصية تجعل النتائج المترتبة على هذا الخلط مختلفة أو مغايرة عما جرى فى أوروبا، ويطلب منا منحه الفرصة، يقول ذلك وتجاربه حولنا أتت بنتائج أكثر كارثية مما تحقق فى أوروبا، انظر إلى أفغانستان، إيران، السودان والصومال، انظر أيضا إلى حال البلاد التى يتصارع أهلها على هذه المعادلة (سوريا، ليبيا، اليمن والعراق).

لكل هؤلاء نقول للدولة وظائف حددتها تجارب البشر، ولها أدوار تتسع وتضيق حسب خبرة الشعوب وتجارب البشر، منها حفظ الأمن والاستقرار، توفير احتياجات الفئات الضعيفة فى المجتمع، تنظيم حياة المواطنين، إدارة بعض مجالات الاقتصاد، العمل على تحقيق الرفاهية وغيرها من الوظائف المرتبطة بحياة البشر على الأرض، وليس من بين وظائف الدولة أن تساعد المواطن على دخول الجنة، من وظائفها أن تعمل على إسعاد مواطنيها على الأرض وأن تعمل على أن يكونوا مواطنين صالحين، لكن أبدا لم ولن تكون من بين هذه الوظائف «إدخال المواطن الجنة» حسب رؤيتها أو تحديد خياراته الدينية، فتلك مسألة تخص الشخص ذاته من حقه أن يؤمن بما يشاء ومن حقه كذلك أن يكفر بما يؤمن به الآخرون، ويعتقد فيما يشاء وقتما شاء، والله سوف يحاسب الجميع على أفكارهم وسلوكياتهم.

نحن نحتاج شجاعة الاعتراف بهذه المعادلة، فالدولة كيان اعتبارى لا دين له، تحتضن مواطنيها وفق قاعدة المواطنة وعلى أساس المساواة فى الحقوق والواجبات، تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان والعقائد، فالدولة الديمقراطية هى التى تفصل ما بين الدين والسياسة ولا يخلط بينهما سوى نظم الحكم القمعية السلطوية والتى يحصل فيها رجال الدين على «ذهب المعز»، الكلمة الأخيرة لا تقدم وتحضر دون ديمقراطية ولا ديمقراطية دون فصل الدين عن الدولة.