عبد المنعم سعيد يكتب : ما بعد افتتاح الحوار الوطنى!

عبد المنعم سعيد يكتب : ما بعد افتتاح الحوار الوطنى!
عبد المنعم سعيد يكتب : ما بعد افتتاح الحوار الوطنى!
 
 
ذهبت كما هي العادة مبكرًا نصف الساعة إلى قاعة نفرتيتى بمبنى المؤتمرات في مدينة نصر لحضور افتتاح عمل الحوار الوطنى بعد طول انتظار. جاءتنى الدعوة باعتبارى رئيس اللجنة الاستشارية للمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، حيث كما عرفت أن المركز وكذلك مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية ومعهد التخطيط القومى سوف تسهم في عمل الحوار باعتبارها من الأذرع البحثية والعلمية في الأمور المتعددة المطروحة.
المشهد الأول كان مفرحًا باللقاء بين أجيال متعددة كان فيها أساتذتى ومن بينها تلاميذى؛ ولما كان المكان المخصص لمراكز البحوث كما ذُكر لى لم يتيسر اكتشافه، فقد وجدت في لافتة لأعضاء مجلس الشيوخ ما يحل معضلة البحث، ويقرب من الزملاء في المجلس في حضور مناسبة عظيمة. سرعان ما عرفت أننى لست وحدى الذي وجد ملاذًا في مقاعد المجلس العريق، وإنما كثير من الزملاء في الصحافة والإعلام والعمل السياسى، وحتى الخصوم الفكرية مثل الأستاذ أحمد الجمال فقد كان في وجوده سعادة ذكرى خلافات قديمة ومستمرة حتى الآن، وفوق ذلك مدد من الحلوى.
ورغم أن دعوة اللقاء حددت الساعة الثانية بعد الظهر للافتتاح، فقد علمنا أن ذلك جرى تغييره بالساعة الثالثة مساء، وعلى أي حال لم تبدأ أعمال المؤتمر إلا في الساعة الرابعة والربع بكلمة رائعة للزميل والصديق أ. ضياء رشوان ختمها بنداء مهم للجمهور المصرى يدعوه فيها إلى متابعة الحوار، وأن يراقبه كذلك، فإذا انحرف أعاده إلى سواء السبيل، وأن يصبر عليه حتى يقوم بمهمته. واستنادًا إلى هذا الطلب الكريم، فإننى أدعوه من موقف المشارك أن تكون أولى خطوات إقامة مصر دولة مدنية ديمقراطية وحديثة الانضباط التام، والمواعيد الصارمة، فهى مثال الحوار الوطنى، فقد كنت قد عدت قبل أيام من مؤتمر «منتدى ديلفى الاقتصادى» في اليونان، والذى شارك فيه ٩٩٠ متحدثًا، و٢٥٠٠ مشارك، خلال أربعة أيام من النظر في قضايا الكون، وعبر عشرات من جلسات العمل، ولم يحدث ولو مرة واحدة أن تأخر موعد البدء أو الانتهاء دقيقة واحدة.
الكلمة الشاملة للرئيس السيسى ومن بعده الكلمات الرئيسية للأستاذ ضياء رشوان والمستشار محمود فوزى ورئيس لجنة الخمسين الدستورية السيد عمرو موسى والدكتور حسام بدراوى فيها الكثير من الامتياز سواء كان ذلك للتعريف بالحوار ومراحله ومنهجه؛ أو بما جرى التنبيه له من عميد الدبلوماسية بأن «الإرث ثقيل والأمر خطير»، ممهدًا في ذلك الطريق إلى طرح التساؤلات التي تتردد لدى الرأى العام المصرى، مطالبًا الإجابة عنها بصراحة وأمانة، حتى «لو كانت صادمة». د. حسام بدراوى أعاد إلى الذهنية المصرية أن مصر لم تكن تتحرك خلال السنوات الماضية في فراغ، ولا بلا رؤية؛ وإنما كانت هناك «رؤية ٢٠٣٠»، التي كانت بمثابة خريطة الطريق الثانية، بعد خريطة الطريق الأولى في ٣ يوليو ٢٠١٣، التي تضع الأهداف والسبل لتحقيقها. كان ذلك فتحًا كبيرًا، فلم يكن معتادًا في مصر الرجوع في الحديث والتعليق على المسيرة المصرية إلى هذه الرؤية على الأقل مقارنة برؤية مماثلة لدى الشقيقة المملكة العربية السعودية حيث لا يكون حدث أو مشروع أو تطور إلا وتُذكر فيه الرؤية باعتبارها المصدر والموجه. والحقيقة أن الرؤية كانت عزيزة الذكر لدى غالبية مَن تحدثوا في الجلسة الافتتاحية.
هنا تحديدًا تظهر ضرورة التأكيد على أن الحوار الوطنى جاء كحلقة تكمل ما سبق من حلقات جرى التفكير فيها، وتنفيذها خلال السنوات الثمانى الماضية التي تنطق بأولويات جرى تطبيقها، ولا يجوز نقضها أو نقدها دون الحديث المباشر والصريح بأولويات أخرى منافسة أو مكملة. وما نحن بصدده هو أنه في كل جيل من أجيال مصر الحديثة كانت هناك مهمة كبرى عليه تحقيقها من أجل وطن عظيم. إن مهام المرحلة المقبلة يجرى فيها تجاوز تحديات وعقبات لابد منها لاستكمال مسيرة جرَت منذ ٣٠ يونيو ٢٠١٣. وإذا كان ممكنًا التلخيص، فإن المهمة الراهنة لا تقل في تحديها عن تحقيق انطلاقة مصرية تتجاوز معضلات المرحلة الخارجية والداخلية إلى معدلات نمو عالية ليس فقط في المجال الاقتصادى، وإنما أكثر من ذلك أن يكون الإنسان المصرى في مستوى العصر الذي نعيش فيه. ومثل ذلك كثيرًا ما يُقال عنه «بناء الإنسان المصرى»، وهو قول لم يَجْرِ له كثير من التحرير في المعنى والمبنى، وفى الأصول والفروع، والكيفية التي ينتقل بها الإنسان من حال يتعايش مع الفقر والتخلف إلى آخر يعيش فيه الغنى والتقدم. ولا يوجد مثال يقرب منه قدر تلك الحالة من الفوران الكبير في دول شرق وجنوب شرق آسيا، التي دارت في المدارين الصينى واليابانى في عصور قديمة؛ ثم دخلت عليها نوبات الاستعمار الفرنسى والبريطانى والهولندى، والحروب العالمية، وكل حالات الفقر والوباء والمجاعة. الأمثلة اليابانية والصينية في التقدم وبناء الإنسان كثيرة، ولكن آخر ما لفت الأنظار قادمًا من المنطقة كان استعداد كوريا الجنوبية لاستعمار القمر.
وظلت التجربة الفيتنامية حاضرة ومُلِحّة في الأذهان لفترة طويلة، وكان النضال الفيتنامى ملهمًا، ولكن ما هو مناسب هو دروس انتقال فيتنام من صفوف الدول النامية إلى قلب الدول البازغة؛ وعندما وصلت صادراتها إلى أكثر من ٢٦٤ مليار دولار سنويًّا فإن «التجربة النضالية» كانت في البناء والتعمير، جنبًا إلى جنب مع بناء الإنسان الفيتنامى لكى يتناسب مع دولة متقدمة قادمة مثل تلك التي قامت في كوريا الجنوبية من قبل. هذه الحالة الآسيوية تشكل مرجعية ناجحة للخيارات المصرية خلال المرحلة المقبلة، وتحدد بوضوح ما يجب النضال من أجله، ألَا وهو بناء الإنسان المعاصر.
الهدية التي تأتى من الجيل السابق للجيل الحالى هي أن مصر قد باتت مُحرَّرة من كل احتلال وحضور أجنبى لأربعة عقود كاملة، وهذه لم تتحقق منذ ما قبل ثلاثة آلاف عام. ورغم كل الصعوبات والتحديات، فإن مصر صاغت من جديد مشروعًا للدولة الوطنية يقوم على البناء واسع النطاق، والولاء الكامل للوطن والمواطنين بغض النظر عن الدين أو النوع أو اللون أو العقيدة. ووُضع ذلك موضع التطبيق في إطار رؤية شاملة ذات طبيعة إصلاحية تقوم على الاستقرار السياسى والنمو الاقتصادى والتكامل الاجتماعى؛ وبات على الأجيال الجديدة من المصريين النضال من أجل تحقيق الأهداف الظاهرة والكامنة في هذه الرؤية. وما جرى في مصر ربما يجعل عيوننا أكثر صفاء في التعامل مع المستقبل حيث نحسم ترددنا، ونهزم مخاوفنا، ونسير على الطريق الذي سارت عليه دول العالم، التي كانت مثلنا ثم سبقتنا لأنها ببساطة حسمت أمرها ولم تعد تقبل المراوغة وإمساك العصا من المنتصف. المرجعية المشار إليها عرفت بناء عناصر القوة المختلفة من خلال أسواق مفتوحة تعمل كما تعمل اقتصاديات السوق في البلدان المتقدمة؛ وفيها يجرى تجديد الفكر وعمران الثقافة بقوة الدفع الجارى في بناء دولة حديثة.